Author

الشباب والتنمية!

|
شهدت تونس ومصر وعديد من بلدان شمال إفريقيا وآسيا حركات احتجاجية شعبية، لعب فيها جيل الشباب الدور الأساسي والحاسم، لا في المواجهة والتنفيذ فحسب، بل في التفكير والتخطيط، فضلاً عن الإدارة والقيادة أيضاً، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة هذه الظاهرة في ظل التطورات والمتغيّرات في المنطقة، بل على المستوى العالمي. وإذا كان إرهاص التغيير، الذي بدا مدهشاً ومفاجئاً، يتفاعل منذ عقود من الزمان, فقد واجه عديدا من التحدّيات الخارجية والداخلية، التي أعاقت ظهوره أو عرقلت فرص التعبير عنه، حتى تراءى للبعض أن منطقتنا تعيش حالة من السبات أو الاستكانة، لدرجة الاستعصاء أو الاستثناء أحياناً، لكن الذي قلب هذه القناعة الزائفة إحراق البوعزيزي نفسه في مدينة سيدي بوزيد التونسية النائية، احتجاجاً على سياسات الإقصاء والتهميش والبطالة وشحّ الحريات، الأمر الذي أعاد العالم العربي ودول المنطقة إلى دائرة الضوء، حيث ذاع صيته وتعرّف العالم على مدن وقرى وبلدات لم يسمع بها أحد من قبل، وكان ذلك بفضل الشباب وحركة الاحتجاج. لعل نجاح انتفاضة مصر السلمية، المدنية، بما تمثله من ثقل ثقافي ووزن سياسي وكثافة سكانية وتاريخ حافل، كان بمنزلة إعلان سريان مفعول الانتفاضة، الذي تخطّى حدود مصر إلى المنطقة، مهيئاً عوامل موضوعية مضافة إلى العوامل الذاتية. وإذا كان لكل بلد خصوصياته الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية ـــ ولا ينبغي إسقاط حالة على أخرى أو استنساخها ـــ فإن التغيير أصبح ''فرض عين''، وليس ''فرض كفاية'' كما يقال، لكنه لن يكون واحداً أو صورة طبق الأصل لكل البلدان، ولا سيما في ظل الظروف المختلفة، لكنه بحكم قانون التطور الاجتماعي الذي تخضع له المنطقة جميعها، ناهيكم عن تأثيرات العولمة ودرجة التداخل والتفاعل والتواصل بينها، فضلاً عن المشتركات الكثيرة، سيكون حاضراً وإن اتّخذ أشكالاً متفاوتة ومختلفة، فقد يتأخر هنا ويتلكأ هناك وقد ينكفئ أو يتراجع، لكنه أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المنطقة تحتاج إلى شكل من أشكال التغيير، ولعل ذلك يتوقف على درجة استجابة الجمهور والسلطات معاً، وإمكانية التوصّل إلى صيغ مناسبة ودرجة تفاهم بين الدولة والمجتمع، بحيث تؤخذ في الاعتبار الحاجات الأساسية العادلة والمشروعة بما يستجيب للمتغيّرات الدولية. وإذا كانت رياح التغيير التي اجتاحت أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية في النصف الثاني من الثمانينيات ووصلت ذروتها بانهيار جدار برلين عام 1989، قد انكسرت عند سواحل البحر المتوسط، لأسباب تتعلق بمصالح القوى المتنفّدة، فإن الموجة الجديدة للتغيير تجاوزت بعض العقبات التي لم يكن بالإمكان اعتراض طريقها، خصوصاً وقد جاءت عارمة وطاغية، ولعب الشباب دورا أساسياً فيها، ولا سيما بتبديد النظرة المسبقة والانطباع السائد عنه باعتباره غير مكترث بالقضايا الكبرى والمصيرية، ومنشغل بنفسه لدرجة ''الأنانية'' و''الميوعة''، لكنه أثبت قدرته وحيويته وشجاعته اللامتناهية واستعداده للتضحية مؤمناً بقضية التغيير وبالحريات والعدالة، وبعيداً عن الأيديولوجيات والتعصب والتطرف، كما أثبت ذلك من خلال إصراره على النزول إلى الشوارع حتى تتم تلبية مطالبه. ويكتسب التغيير أهمية استثنائية عظمى في هذه المنطقة الاستراتيجية الحيوية، الغنية بالموارد الطبيعية الأساسية التي تشكل محور الصراع الاجتماعي والاقتصادي على المستوى الكوني، فهي موطن ثلاث ديانات كبرى: اليهودية والمسيحية والإسلام، وفيها المدن المقدسة لمعتنقي الأديان الثلاثة: بيت لحم والقدس ومكة المكرمة والمدينة المنورة، وهناك من يضيف إليها النجف، أي أن التنوّع الديني يحظى باهتمام وامتداد عالمي، يؤثر فيه ويتأثر به. من جهة أخرى, فالمنطقة موطن النفط والغاز على المستوى العالمي، فإضافة إلى العراق وإيران ودول الخليج، حيث تتجاوز احتياطياتها ما يزيد على 60 في المائة من احتياطي العالم. وبعد كل ذلك فللمنطقة، موقع استراتيجي، حيث تقع على مفترق ثلاث قارات: آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهي موطن الحضارات القديمة عالمياً. لهذه الأسباب سيكون تأثير التغيير في المنطقة لا محلياً ولا إقليمياً فحسب، بل عالمياً بحكم الترابط والتشابك في المصالح التي جعلت القوى العظمى تتدخل عسكرياً بسرعة فائقة وتحرّك جيوشها المرابطة في المنطقة وحولها وخارجها لتكون جاهزة, حيث يلعب حلف شمالي الأطلسي NATO القوة الضاربة، إلى دور الولايات المتحدة المعروف. يضاف إلى ذلك ما تفرضه هذه القوى من رقابات مالية تتحكم في اقتصادات وتنميات الأغلبية الساحقة من دول المنطقة، ناهيكم عن محاولات فرض الهيمنة السياسية، ولا سيما في موضوع التسوية العربية ـــ الإسرائيلية، التي لا تستجيب لمتطلبات الحد الأدنى من حقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه وبناء دولته الوطنية المستقلة. إذا كان شكل الموجة الأولى للتغيير بعد الحرب العالمية الثانية، قد استكمل انضمام بعض بلدان أوروبا الغربية إلى نادي الديمقراطية العالمي، مثل اليونان العسكرية الديكتاتورية وحكم سالار الديكتاتوري في البرتغال وحكم فرانكو الذي دام 40 عاماً في إسبانيا، فإن الموجة الثانية كانت أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية في الثمانينيات ومطلع التسعينيات التي توّجت بتفكيك الاتحاد السوفياتي، فإن الموجة الثالثة، وهي تشمل بلدان عالمثالثية بدت سلمية، مدنية، بحكم عدد من العوامل والسمات الجديدة. لعل السمة الأولى هي الحاجة إلى الحريات، العامة والخاصة، فلم يعد مقبولاً في ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية ''الديجيتل''، أن تنفرد الحكومات بشعوبها وتذيقها العسف والكبت والحرمان، بحجّة السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، إذ بات التدخل لأغراض إنسانية يشكل قناعة لدى المجتمع الدولي، حتى وإن استخدم بطريقة فيها ازدواجية المعايير وانتقائية سياسية وتوظيف مصلحي، لكنه لم يعد مسموحاً للحاكم أن يتصرّف دون رقابة من المجتمع الدولي مع شعبه، خصوصاً باستخدام العنف والآلة العسكرية وأعمال الإبادة التي يحاسب عليها القانون الدولي. أما السمة الثانية فهي اكتساب المعارف الجديدة, فمجتمع الشباب المتطلع إلى الحرية بدأ باستخدام المعارف والتكنولوجيا الحديثة، وعلى الرغم من محدودية ذلك عربياً قياساً لدول العالم المتقدم، فإنه بفعل قانون العولمة أصبح بمقدور الشباب الحصول على المعرفة وتبادلها بسهولة عبر الإنترنت والفيسبوك والتويتر والساتلايت والهاتف النقال وغيرها، كما أنه بحكم حيوية الشباب واندفاعه وديناميكيته بل تمرّده، فإنه أكثر من غيره يتقبّل الجديد ويبدي استعداداً للانخراط فيه. أما السمة الثالثة فهي التناقض الحاصل بين متطلبات التنمية واستثمار جيل الشباب وطاقاته، التي هي ضرورة حيوية لتحقيق غايات المجتمع وأهدافه. وقد ذهبت ''أسكوا'' ـــ اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا ـــ إلى تأكيد ذلك حيال تطوير سياسة وطنية للشباب في المنطقة، وهو موضوع دخل برامجها منذ أربعة عقود ونصف العقد من الزمان، دون أن يلقى الاهتمام الكافي من جانب الدول الأعضاء، وهو ما لمسته خلال حضوري اجتماع الخبراء السنوي لمناقشة قضايا التنمية والشباب. أما السمة الرابعة فتتعلق بالتواصل الذي أخذ الشباب يشعر به، سواءً فيما بينهم أو على المستوى العالمي، ولا سيما أن العالم كلّه في ظل العولمة أصبح قرية صغيرة، الأمر الذي أدّى إلى عولمة الثقافة وعولمة الحقوق، ووفّر جسوراً للتواصل بين المجتمعات، عبر وسائل الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام، وذلك بغضّ النظر عن الوجه الآخر المتوحش للعولمة، ووفر التواصل والحداثة أدوات للتحضير واللقاء والتظاهر وتحديد الأهداف والوسائل للمجابهة، وهو الأمر الذي فاق قدرات السلطات واستعداداتها، وأهم ما في ذلك الانتقال السريع باستبدال العلاقة بين المحكومين والحكام، ولم يكن ذلك بعيداً عن عنصر التواصل الداخلي العربي والعالمي، خصوصاً التضامن مع حركة الشباب. جدير بالذكر أن الأمم المتحدة كانت قد أقرّت منذ عام 1965 إعلاناً عالمياً، حول تعزيز مُثل السلام والاحترام المتبادل والتفاهم بين الشعوب في أوساط الشباب، ثم اتّخذت في عام 1995 برنامج العمل العالمي للشباب، وفي عام 2007 أصبح هذا البرنامج ''أجندة عملية للشباب''، ولا سيما بعد تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المقدّم إلى الجمعية العامة (الدورة الثانية والستون) خصوصاً بتحديد مدى زمني يمتد إلى 15 عاماً قادماً يتم قياس الغايات وتقويمها في ضوئه. وأوصت الأمم المتحدة جميع الدول الأعضاء بتشجيع وتطوير سياسات تستهدف الشباب، مثلما كان ذلك توصية لهيئات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة واللجان الإقليمية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية الدولية، ولا سيما المنظمات المعنية بالشباب. وأكدّت الأمم المتحدة على إدماج هذه السياسات في خطط التنمية الوطنية وتخصيص الأموال اللازمة لإنجازها، ولعل آخر قرار كان القرار رقم 64/130 الصادر في 3 شباط (فبراير) 2010 وقبله القرار رقم 62/126 الصادر في 5 شباط (فبراير) 2008. ولو تعاملت الحكومات مع الشباب باعتبارهم فئة اجتماعية ديموغرافية تحتاج إلى سياسات قطاعية ذات أهداف وغايات محدّدة يتم تنفيذها ضمن خطط استراتيجية، لما وصلت الأوضاع إلى ما هي عليه، الأمر الذي يتطلب استهداف الشباب في إطار التخطيط لهذه الأولويات باعتبارهم موارد بشرية لها عوائد استثمارية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وأن التكلفة الاجتماعية التي قد تنجم عن عدم الاستثمار في هذه الفئة غالباً ما تكون عالية، وهو ما ذهبت إليه ورقة بتول شكوري رئيسة قسم السكان والتنمية في ''أسكوا''. وحسب الأمم المتحدة فإن النسبة العمرية للشباب تبلغ 15 ـــ 24 عاماً، أي أن نسبتهم تساوي نحو 21 في المائة من إجمالي السكان في المنطقة العربية ونحو 70 مليون نسمة، وعلى الرغم من الإقصاء وانخفاض مستوى التعليم، بل وجود أمية أبجدية في صفوفهم تبلغ أكثر من 13 في المائة, وفجوة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وفي النوع الاجتماعي، خصوصاً في حقوق المرأة. وعلى الرغم من الاستخدامات المحدودة للحاسوب، وفجوة المهارات، فالشباب هم الفئة الأكثر تأثّراً بتحدّيات سوق العمل الجديدة المرتبطة بالاتجاهات الاقتصادية المتغيّرة، وتصل نسبة بطالة الشباب في الشرق الأوسط إلى 25 في المائة. لعل الشباب يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى المساهمة في اتخاذ القرار, وهذا يتطلب تفهم ظروفه وطريقة عيشه وتلبية حقوقه والتعاطي مع آماله وتطلعاته، لكونه العنصر الحيوي والفاعل الذي لن تتحقق التنمية والتغيير من دونه, سيعود بالضرر على الدولة والمجتمع على حد سواء, وابتداءً من الأسرة إلى المؤسسة المدرسية ومروراً بمؤسسات العمل ومنظمات المجتمع المدني، ناهيكم عن مشاركته في اتخاذ القرار في أعلى المستويات التي لها علاقة بقضايا التنمية, خصوصاً قضايا الشباب واستراتيجياته.
إنشرها