Author

البطالة بين العلاج المؤقت والإصلاح في العمق

|
البطالة بلا شك داء عضال يستفحل في كثير من المجتمعات، يكسر خاطر صاحبه ويحطم طموحه ويعزله عن مجتمعة ويُذله أمام الآخرين، فإن طالت المدة فتأثيره النفسي عميق ومفاسده أعمق على صاحبه وعلى كل المجتمع، وهذا أمرٌ أصبح يُدركه الجميع في ظل هذه الأحداث والثورات العربية التي بينت المستور في كثير من الدول العربية, والتي أعتقد أنها ستمتد إن عاجلاً أو آجلاً إلى بعض الدول غير العربية التي تعاني نفس الظروف أو أشد من البطالة والفقر والفساد والظلم والاستبداد خصوصاً في بعض دول شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، ولا تنسى أن البطالة هي أول من قدح الشرارة حينما أحرق الشاب التونسي محمد بو عزيز نفسه. حينما تأملت أسباب البطالة وفئاتها وجدتها تتباين وتختلف من بلد إلى آخر، فبينما تزداد البطالة بين أصحاب التعليم الجامعي والتأهيل العالي في بعض البلدان، تجدها أكثر بين فئة العمال في بلدان أخرى، وأما من جهة الأسباب فغالباً السبب هو قلة الوظائف فيما يشغل المواطنون كامل الوظائف المتاحة في بلدانهم, هذا في معظم البلدان باستثناء بلادنا الغالية السعودية إذ إن الأمر فيها يختلف بشكل عجيب!! فكيف هو شكل البطالة في السعودية ؟ وما هي الأسباب الحقيقية لتلك البطالة؟ قبل أن أبدأ الإجابة عن تساؤلاتي أعلاه، أحب أن أشير وبكل الشكر والامتنان إلى تعامل القيادة العليا لهذه البلاد المباركة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين ـــ حفظه الله ـــ مع هذا الجانب الخطير من تحديات التنمية البشرية منذ زمن بعيد، ودليل ذلك مسيرة القرارات المتوالية للسعودة, ودعم صندوق الموارد البشرية ونشاطات بنك التسليف, وتطوير الجامعات, وزيادتها لاستيعاب الخريجين والموظفين, وتأسيس مراكز ومدن استثمار صناعي و تجاري ضخمة. ولعل قرار الملك في الأسبوع الماضي بصرف رواتب للعاطلين الباحثين عن العمل أحد هذه القرارات الحاسمة في التخفيف من آثار البطالة في المجتمع السعودي. إن المتأمل في البطالة في السعودية يجد بشكل واضح أنها تختلف من حيث الشكل والأسباب عنها في كثير من البلدان الأخرى، إذ إن الوظائف متوافرة بشكل كبير وتزداد الحاجة إلى طرح المزيد منها مع تدفق الكثير من الاستثمارات في الداخل وعودة الكثير منها من الخارج ومع الكثير والكثير من المشاريع الجبارة قيد البناء في كافة مناطق ومدن المملكة، وهذه الوظائف تشمل كل مستويات التأهيل الدنيا والعليا، وأكبر دليل على هذا, أولاً: نسبة الموظفين من الأجانب وأسرهم في البلد والتي تقارب ثلث نسبة السكان في المملكة، وثانياً: أعداد التأشيرات المهولة التي تُطلب يومياً من كل فئات العمالة الخارجية، وإني أجزم أن مجموع الوظائف المشغولة والمتاحة تكفي لردم فجوة بطالة السعوديين في المملكة نهائياً مع بقاء مئات الألوف من الوظائف لأصحاب المهارات والمؤهلات المميزة من العمالة الوافدة. ولكن هل الحل في تضييق الخناق على المستثمرين في الحصول على تأشيرات للعمالة من الخارج؟ أو إلزامهم بتوظيف السعوديين؟ هل حقاً أزمتنا أزمة توظيف وليست أزمة تعليم كما يزعم بعض الزملاء الكتاب أو الإخوة الأكاديميين؟ إذا كانت كذلك فلم بعض من هؤلاء أو ممن يؤيد رأيهم ممن لديهم شركات عائلية يتهافتون على التأشيرات لتوظيف الأجانب خصوصاً في الوظائف التقنية والفنية أو الطبية؟! ثم لم تلك الجهات المسؤولة عن تأهيل الشباب أو تدريبهم وعلى رأسها الجامعات والكليات التقنية وغيرها تعج بالعمالة من كل الجنسيات في التخصصات الفنية والأكاديمية التي تدرسها؟! لم لا تعيد توظيف بعض خريجيها لتسد الحاجة في هذا المجال؟! .. طبعاً الرد سهل وجاهز وكثير الالتفاف من موظفي العلاقات العامة في تلك الجهات, ولكنه لمن يدرك واقع تلك الجهات غير مُقنع وغير صحيح. إن البطالة في السعودية تتركز بنسب أكبر بين مخرجات التعليم الجامعي والجامعي المتوسط, ولعلك حينما تتصفح العديد من الدراسات والتقارير والنقاشات حول البطالة تجد ما يدعم هذا القول ولعلي أشير إلى التحقيق الذي أجرته الكاتبة هيام المفلح في جريدة الرياض لعددها 155739 وتاريخ 9/3/1432هـ بعنوان ''جامعيون عاطلون في السجون.. ''أزمة'' تعليم أم ''مشكلة'' توظيف؟'' إذ أشارت بداية إلى أن هناك إحصائية نشرتها وزارة الداخلية تكشف أن ''نسبة 90 في المائة من نزلاء السجون في السعودية من العاطلين، وأن 70 في المائة منهم من خريجي الجامعات!'' ثم تتناول هذا الموضوع بالنقاش مع نخبة من الكتاب والمختصين، وأنا هنا لن أناقش كل ما طرحه أولئك الكتاب الكرام والذين انشغل بعضهم في تفنيد هذه الإحصائية خصوصاً شقها الثاني متسائلاً ''كيف يكون 70 في المائة من نزلاء السجون من خريجي الجامعات!!'' وأنا أؤيده في هذا التساؤل الإنكاري إن كان هذا المقصود ولكني أؤيد الإحصائية إن كانت كلمة ''منهم'' تشير إلى العاطلين لا إلى نزلاء السجون إذ تعزز تلك النسبة إجمالاً نسبة العاطلات من الإناث فأكثرهن جامعيات؟!، ثم أستغرب ممن يلخص المشكلة كلها ويحصر أسبابها في التوظيف ويلقي اللوم فيها على القطاع الخاص الذي لا يوظف السعوديين!! ويبرئ التعليم ومخرجاته من المشكلة وهنا تبرز المشكلة في معالجة الأمر بطريقة ارتجالية وعاطفية وتزيد تفاقماً مع تبني وزارة العمل أو بعض من كبار مسؤوليها لهذا الطرح لتبرز تصريحات فيها الكثير من الحدة والتهديد مثل ما نسبته جريدة الشرق الأوسط في عددها 11783 و تاريخ 28/3/1432هـ إلى نائب وزير العمل السعودي الذي قال: ''حان الوقت ليحدد المجتمع خياراته، إذا كان القضاء على البطالة هو رغبتنا، وأردنا علاج البطالة، فعلينا أن نتحمل نتائج ذلك''، وأضاف ''سيتعين علينا اتخاذ سياسات قوية، سياسات مؤلمة، على المجتمع أن يتحملها، ولا نستطيع أن نحتفظ بالكعكة ونأكلها في الوقت نفسه''. هنا أقول لا بد من النظر إلى المشكلة من كل الزوايا والبحث في مسبباتها وكل الحلول المحتملة لها وكل المشاكل المحتملة عند تطبيق تلك الحلول ولكن بطرق تقييم للواقع علمية ومنهجية لا بالرأي والظن أو بجلسات نقاش واجتماعات وعصف ذهني مجردة دون استخدام أدوات وتقنيات هذا العصف الذهني كما هو مُتبع في أغلب الأحيان وهنا أطرح تساؤلات لأصحاب كل رأي من الآراء المتداولة حول البطالة أسبابها وحلولها ولعلي أعيد النقاش حولها في مقال قادم إن شاء الله: من يدعي أن المشكلة أزمة توظيف وليست أزمة تعليم, أقول: لماذا لا توجد بطالة بين خريجي جامعة الملك فهد أو بالكاد يوجد؟ بينما تكثر البطالة بين خريجي نفس التخصصات من الكليات التقنية وبعض الجامعات الأخرى؟ لماذا البطالة بين خريجي معهد الإدارة في التخصصات الإدارية أقل منها بين من يحملون نفس التخصص من كثير من الجامعات الأخرى؟ لماذا لا تكاد تجد عاطلا بين خريجي كلية الجبيل وينبع بينما تملأ البيوت أعداد العاطلين والعاطلات من خريجي الكليات التقنية والمعاهد العليا للبنات وما يتبع مناهجها وسياساتها من المعاهد الخاصة؟ ثم من يلوم المستثمرين في حرصهم على طلب المؤهلين المهرة لشغل وظائف تتطلب ذلك لنجاحها إذا لم يجدوا في خريجي الجامعات والكليات ممن يتقدمون لهم من يستطيع القيام بها؟ طبعاً هذا ليس دفاعاً عن كل المستثمرين فمنهم من هو مصاب بعقدة الأجنبي وفاقد للثقة تماماً بمخرجات جامعاتنا؟ وإنما للتأكيد على أن المشكلة ذات أبعاد كثيرة وكبيرة تبدأ من التخطيط التنموي وتمر بالتعليم وسياساته وتنتهي بسياسات التوظيف وضوابطه ودقة الرقابة على تطبيق قراراته. ختاماً لا شك أن القرارات السامية الأخيرة بصرف رواتب للعاطلين الباحثين عن عمل هي قرارات تساعد أولئك العاطلين لحين الفوز بفرص عمل مناسبة وتتيح لبقية الوزارات المسؤولة عن التخطيط والاقتصاد وعن العمل وسياساته والتعليم والتدريب التنسيق فيما بينهما تنسيقاً جاداً لحل المشكلة من الجذور بعيداً عن البيروقراطية فيما بينهما ومحاولة رمي أسباب التهمة على الآخرين. ودمتم بخير وسعادة.
إنشرها