Author

الأرض قبل القرض

|
أسعدني إعلان وزير المالية أخيرا عزم الدولة إنشاء صندوق لضمان القروض. فقد اقترحت هذه الفكرة منذ نحو عشر سنوات، وكتبت بذلك لولاة الأمر - وفقهم الله - آنذاك مقترحا إنشاء هذا الصندوق كوسيلة تساعد على علاج مشكلة قوائم الانتظار الطويلة عند صندوق التنمية العقاري. كان صندوق التنمية يواجه آنذاك معضلة نمو الطلب على القروض نموا يفوق بكثير المتاح من موارده المحدودة. وكانت موارده محدودة بسبب انخفاض أسعار النفط، وقلة موارد الدولة وتعاظم دَينها العام. لذلك كان التفكير في أي اقتراح وقتها لحل هذا الإشكال يتطلب ألا يترتب على أي اقتراح يقدم للدولة أية التزامات مالية إضافية على موازنتها المرهقة أصلا بالدين العام الضخم الذي ترتب على تكاليف حرب الخليج الثانية، ثم تراكم في السنوات التالية للحرب بسبب انخفاض إيراد النفط بأقل من الالتزامات المالية الواجبة عليها، فانتهجت الدولة سياسة عجز الموازنات، وكان الفارق فيها بين جانبي الإيرادات والنفقات يغطى بالاقتراض. في مثل تلك الظروف لم يكن مناسبا لحل مشكلة قوائم الانتظار الطويلة عند صندوق التنمية العقاري الدعوة لزيادة الاعتمادات المالية للصندوق! فاقترحت فكرة إنشاء صندوق ضمان القروض، الذي يقوم على أساس أن تستخدم الدولة موارد صندوق التنمية العقاري لتمنح طالبي القروض ضمانا للاقتراض من المصارف الخاصة بدلا من قيام الصندوق نفسه بمنح القروض مباشرة. حيث إن من يرغب في الاقتراض منهم من المصارف الخاصة بحدود المبلغ الذي يمنحه صندوق التنمية وهو 300 ألف ريال، تمنحه الدولة ضمانا يقدمه المقترض للمصارف تتعهد بموجبه الدولة بالتسديد عنه في حالة عجزه عن السداد. وهذا الضمان يخفض مخاطر الدين عند المصارف للصفر، فيدفعها لتمويل الأفراد لغرض البناء. وميزة هذه الفكرة أنها توسع عدد المستفيدين من الموارد المحدودة التي كانت للصندوق لمضاعفات كبيرة جدا تصل لتسعة وتسعين ضعفا. ذلك أنه إذا افترضنا أن معدل الديون المعدومة لدى المصارف الخاصة هي في حدود 1 في المائة، فإن كل مبلغ قيمته 300 ألف ريال سيستفيد منه بهذه الطريقة نحو 99 شخصا من بين كل 100 مقترض من المصارف الخاصة، بدلا من أن يستفيد منه شخص واحد كما هو المتبع في طريقة منح القروض لدى صندوق التنمية العقاري. وهي فكرة عملية قائمة على إعادة التنظيم لا زيادة الأموال وقابلة للتطبيق كما يمكن دعمها بالتأمين على القروض، وهي سياسة تطبقها المصارف ومؤسسات التمويل الأخرى. والمعروف أن نجاح فكرة التأمين ضد أية مخاطر محتملة تقوم على أساس قانون الأعداد الكبيرة المعروف عند خبراء الإحصاء باسم قانون بواسون. وفكرته تقوم على أنه في الوقت الذي يصعب التنبؤ بحادثة فردية واحدة (مثلا: فشل شخص ما في تسديد قرض عليه)، فإنه يمكن التنبؤ بمثل هذا الخطر بدرجة عالية من الدقة ضمن عدد كبير من الحوادث. ومع ذلك، علينا أن نتذكر أن مشكلة الإسكان لها جوانب متعددة والتمويل أحدها. صحيح أن زيادة الاعتمادات المالية للقطاع الإسكان أمر أسعد الجميع، لكننا في الواقع في حاجة ماسة جدا إلى تطوير آلية تنفيذ هذه القرارات من خلال إحداث تغيير نوعي في توجهات واستراتيجيات التنمية، وتطوير أساليبنا الإدارية وتنظيماتنا المؤسساتية لتعظيم الاستفادة من هذه الاعتمادات في وضع حلول جذرية لمشكلاتنا الاقتصادية سواء في قطاع الإسكان أو في غيره من القطاعات التي تعاني ضغوطا مماثلة. وأعتقد أن في مقالة الأستاذ خالد العثمان القيّمة التي كتبها الأسبوع الماضي مقترحات إدارية وتنظيمية مهمة سوف يعين الأخذ بها وتطبيقها على رفع كفاءة عمل صندوق التنمية العقاري، وكذلك الهيئة العامة للإسكان. اعتقد أنه حان الوقت لأن ندرك أن كل محاولة للالتفاف حول القضايا الاقتصادية الشائكة دون تحديد أصل الداء، ستكون محاولة مسكنة ومؤقتة وغير حاسمة ومحكوما عليها بالفشل ابتداء؛ لذلك علينا أن نصارح أنفسنا بأن مشكلة الإسكان في بلدنا هي مشكلة ندرة أرض لا قرض! يجب أولا توفير الأراضي الصالحة للسكن بتكلفة تمهيدها وتسويتها لا أكثر. ولن تحل هذه المشكلة دون الوقوف بصرامة ضد ظاهرة استيلاء أفراد على أراضٍ شاسعة بغرض التربح لا بقصد السكن. ومن الحكمة الآن قيام الدولة باسترجاع مثل هذه الأراضي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب العمل على تخفيض أسعار الأراضي عن طريق زيادة عرضها، ومن وسائل زيادة عرضها فرض الزكاة على الأراضي الفضاء غير المطورة (أو فرض أية ضريبة تراها الدولة مناسبة)، وذلك لدفع ملاكها للتخلي عن حبسها. دمعت عيناي عندما علق أحد القراء على إحدى مقالتي قبل أسبوعين قائلا: ''أبي وطن في وطني!''. التنمية الفذة هي في الحقيقة إدارة فذة قبل أي شيء آخر. لكل زمن قراراته المناسبة، والمرحلة في حاجة إلى قرارات سباقة شجاعة غير عادية. الحلول بسيطة، لكنها في حاجة إلى قرارات ذكية!
إنشرها