Author

أحداث ليبيا تفتح ملف المرتزقة ودورهم في الحياة السياسية الإفريقية

|
أدت أحداث الثورة الليبية ضد نظام العقيد معمر القذافي إلى عودة الجدل حول طبيعة الدور الذي يمارسه المرتزقة في الحياة السياسية الإفريقية. إذ على الرغم من التعتيم الإعلامي الذي فرضته الحكومة الليبية أظهرت العديد من التقارير والإفادات التي أدلى بها الثوار أنفسهم وبعض المنظمات الدولية وجود قوات من المرتزقة الأفارقة تدافع عن نظام القذافي. ويأتي معظم المقاتلين الأفارقة الذين استعان بهم القذافي في قمع المتظاهرين من بلدان إفريقية عدة مثل كينيا وغانا وتشاد. ففي سنوات السبعينيات والثمانينيات تدفق الآلاف من مواطني النيجر وتشاد إلى ليبيا وهم ينتسبون إلى قبائل الطوارق المسلمة. وقد تمكن النظام الليبي من تجنيد هؤلاء في إطار قوة أمنية خاصة أطلق عليها اسم الفيلق الإسلامي. وتشير بعض التقارير الواردة من مالي إلى أن معظم مقاتلي الطوارق الموالين للقذافي تركزوا في طرابلس وسبها. وعلى أية حال فإن طرح مسألة المرتزقة في السياق الليبي تطرح العديد من التساؤلات حول فاعلية النظام الأمني الجديد الذي يتبناه الاتحاد الإفريقي. وقد حاول الأفارقة من خلال تنظيمهم القاري الجديد تفعيل الميثاق الإفريقي للقضاء على المرتزقة والذي تم إقرار نظامه الأساسي عام 1977 في عهد منظمة الوحدة الإفريقية. ويبدو جليا أن عصر المرتزقة لم ينته بعد في إفريقيا وأن الاتحاد الإفريقي لم يستطع أن يضع حلولا ناجعة لهذه الإشكالية التي ارتبطت بالمشهد السياسي الإفريقي معظم سنوات ما بعد الاستقلال. من هو المرتزق؟ عادة ما يقوم المرتزقة بعرض خدماتهم ومهاراتهم لأحد الأطراف في المواقف الصراعية الأجنبية مقابل أجر مادي يفوق ما يحصل عليه نظراؤهم المحليون. وطبقا للمادة الأولى من الميثاق الإفريقي لمحاربة المرتزقة فإن المرتزق هو الشخص الذي: أ) يتم تجنيده خصيصا محليا أو في الخارج ليقاتل في نزاع مسلح. ب) يشارك فعلا ومباشرة في الأعمال العدائية. ج) يحفزه أساسا الاشتراك في الأعمال العدائية الرغبة في تحقيق مغنم شخصي، ويبذل له فعلا من قبل طرف النزاع أو نيابة عنه وعد بتعويض مادي. د) وهو ليس من رعايا طرف في النزاع ولا متوطنا بإقليم يسيطر عليه أحد أطراف النزاع. هـ) وهو ليس موفدا في مهمة رسمية من قبل دولة ليست طرفا في النزاع، وذلك بوصفه عضوا في قواتها المسلحة. ولا شك أن هذا التعريف الذي تبنته منظمة الوحدة الإفريقية عام 1977 إنما يعكس التفكير الإفريقي في مسألة النزاعات الإفريقية البينية. على أن ظاهرة المرتزقة والجيوش الخاصة بهذا المعنى ليست حديثة النشأة وإنما تضرب بجذورها في أعماق التاريخ القديم. فالحرب البونية الأولى بين روما وقرطاج عام 264 قبل الميلاد شهدت استخدام المرتزقة على نطاق واسع. وتشير العديد من الأمثلة التاريخية إلى الاعتماد على المرتزقة أثناء حكم الأباطرة الرومان. ويبدو أن عالم اليوم يشهد استمرارا لوجود الظاهرة نفسها وإن اختلفت أشكالها. فدولة الفاتيكان تعتمد على شركة أمن سويسرية خاصة لحماية البابا وحراسته. ولا يخفى أن القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى قد حاولت في سعيها المحافظة على مستعمراتها فيما وراء البحار استخدام الجنود المرتزقة. وعادة ما كان يتم تكليف هذه الجيوش الخاصة بمهام وأعمال لا يمكن للجيوش النظامية القيام بها نظرا لأنها تتجاوز الاعتبارات القانونية والأخلاقية. المرتزقة في الخبرة الإفريقية يلاحظ أن قوات المرتزقة قامت بدور بارز في عملية انتقال السلطة والاستيلاء عليها في بعض الدول الإفريقية خلال الفترة ما بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى المرتزق الفرنسي الأشهر بوب دينار الذي قام بدور محوري في العديد من الانقلابات العسكرية التي شهدتها جزر القمر، وهي دولة عربية إسلامية تقع على المحيط الهندي. وفي أعقاب انتهاء فترة الحرب الباردة ظهرت قوات المرتزقة بثياب جديدة وتحت مسميات أخرى ألا وهي شركات الأمن الخاصة مثل شركة Executive Outcome وcorporate warrior ، حيث عرضت هذه الشركات خدماتها الأمنية والعسكرية بمقابل مادي. يعني ذلك أننا أمام شكل جديد ومعاصر للمرتزقة. ويبدو أن اللجوء إلى هذه الشركات الأمنية قد ازداد بعد تعرض الدول الإفريقية الفقيرة لضغوط من قبل القوى المانحة بهدف تقليص ميزانياتها العسكرية وتقليل حجم قواتها المسلحة. ومن جهة أخرى، شهدت جنوب إفريقيا بعد نهاية حقبة التفرقة العنصرية وجود فائض كبير من الجنود المدربين الذين لجأوا بحثا عن عمل إلى الالتحاق بشركات أمنية خاصة. وقد تم نشر هؤلاء الجنود في دول إفريقية متعددة مثل سيراليون وليبريا. وتقيد بعض المصادر أن قوات من المرتزقة القادمة من ليبريا تقاتل اليوم في صفوف جيش ساحل العاج للدفاع عن حكومة الرئيس المنتهية ولايته لوران غباغبو وذلك في مواجهة حكومة الرئيس المنتخب الحسن وتارا. وفي عام 2009 حاولت قوات مرتزقة جنوب إفريقية مساعدة رئيس مدغشقر المخلوع مارك رافالومانانا في العودة إلى السلطة مرة أخرى. وتجدر الإشارة إلى الانقلاب العسكري الفاشل عام 2004 في غينيا الاستوائية والذي تورط فيه المرتزق البريطاني سيمون مان والجنوب الإفريقي نيك دي تويت. وتأتي أهمية هذه الحالة من كون غينيا الاستوائية ثالث أكبر دولة منتجة للنفط في إفريقيا غير العربية بعد كل من نيجيريا وأنجولا. وتشير بعض المصادر العسكرية إلى أن نشاط المرتزقة لا يزال مطلوبا في إفريقيا حيث يمكن أن يتقاضى المرتزق الواحد ما بين عشرة آلاف و20 ألف دولار شهريا. وفي عام 2003 أثناء الحرب الأهلية في ساحل العاج حذر وزير الخارجية البريطاني جاك سترو إحدى شركات الأمن البريطانية من تجنيد المرتزقة للعمل في ساحل العاج. وقال سترو أنه يشعر بقلق عميق إزاء التقارير التي تؤكد أن مجموعة خدمات نورثبريدج ـــ وهي شركة أمنية خاصة بريطانية ـــ تقوم بتجنيد الجنود السابقين من بريطانيا وجنوب إفريقيا وفرنسا للعمل في ساحل العاج. الجهود الإفريقية للقضاء على المرتزقة إن تدخل ومشاركة المرتزقة في المواقف الصراعية العنيفة التي شهدتها القارة الإفريقية تطرح العديد من التساؤلات المهمة: ومن ذلك قيمة الميثاق الإفريقي لمحاربة المرتزقة والذي مضى عليه نحو 34 عاما؟ وما هي الخطوات الملموسة التي اتخذتها الحكومات الإفريقية لتنفيذ بنود هذا الميثاق؟ وهل يمكن للمواطنين الأفارقة أن يثقوا بقدرة اتحادهم الإفريقي على تحرير القارة السمراء من وطأة وجود المرتزقة؟ إن الغاية التي من أجلها تم الاتفاق على ميثاق محاربة المرتزقة عام 1977 كانت تتمثل في ضرورة المحافظة على سيادة واستقلال الدول الإفريقية بما في ذلك سلامة أراضيها ووحدتها الإقليمية. بيد أن الخبرة المعاصرة تظهر أن بعض القادة الأفارقة قد لجأ إلى استخدام قوات المرتزقة بغية الاستمرار في السلطة بالمخالفة لمبادئ الديمقراطية وتجاوزا لرغبة وإرادة الجماهير العريضة, وهو ما يتعارض والمبادئ التي يقوم عليها الاتحاد الإفريقي. ولعل من المثير للاستغراب أن ليبيا قد صادقت على الميثاق الإفريقي لمحاربة المرتزقة عام 2005. يعني ذلك أن عليها مسؤولية قانونية بمنع مشاركة المواطنين الأجانب في أية أعمال عسكرية وأمنية على أراضيها. إن تعاطي الزعماء الأفارقة في الماضي مع تنظيمات ومافيات المرتزقة بهدف الاستمرار في السلطة بشكل غير دستوري يعني أنهم يشاركون في الجريمة نفسها التي يقوم بها المرتزقة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن التنظيم الدولي الإفريقي سواء بشكله القديم (منظمة الوحدة الإفريقية) أو الجديد (الاتحاد الإفريقي) يمثل "ناديا للحكام الطغاة" فإن القيمة القانونية والعملية للميثاق الإفريقي الخاص بمحاربة المرتزقة ستظل مجرد حبر على ورق. لقد آن الأوان اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة النظر في التعريف القانوني للمرتزقة والذي أقره الاتحاد الإفريقي استنادا إلى ميثاق عام 1977 بهذا الخصوص. لقد أثبت هذا الميثاق أنه غير رادع بالنسبة للمرتزقة أنفسهم أو الذين يقومون بتأجيرهم. على أن المشكلة الأكثر إلحاحا هي فشل هذا الميثاق الإفريقي في التعامل مع الأشكال الحديثة للمرتزقة والتي يطلق عليها اسم الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة. يعني ذلك أن مسألة المرتزقة في الواقع الإفريقي لن يتم التخلص منها دون الأخذ بعين الاعتبار هذه الأشكال المعاصرة لمهنة الارتزاق. وعلى الرغم من أن الاتحاد الإفريقي ما فتئ منذ نشأته يتحدث لغة خطابية وحماسية تعبر عن رفضه لكل أشكال الارتزاق في إفريقيا إلا أن ذلك لن يجدي نفعا دون مراجعة قانونية للميثاق الإفريقي الخاصة بمحاربة المرتزقة والقضاء عليهم. وأحسب أن نجاح المنظومة الأمنية الجديدة التي تبناها الاتحاد الإفريقي من خلال مجلسه الخاص بالسلم والأمن الإفريقي يعتمد على قدرته في القضاء على مشكلة المرتزقة بما يدعم من مسيرة التنمية والتحول الديمقراطي في الدول الإفريقية.
إنشرها