Author

مصر بين مخاطر الانقلاب وآمال الثورة .. أي مستقبل؟

|
هل ذهبت السكرة وجاءت الفكرة في مصر المحروسة؟ لقد أدى الإعلان عن تنحي الرئيس محمد حسني مبارك وتخليه عن منصب رئيس الجمهورية إلى حالة من النشوة العارمة بين الجماهير الحاشدة في مختلف أنحاء مصر. ومن الواضح للعيان أن الجيش المصري قرر بعد تصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية وامتدادها في معظم المدن والمحافظات المصرية الإطاحة برأس النظام الذي ظل قابضاً على السلطة بيد من حديد طيلة عقود ثلاثة. وعلى الرغم من ارتفاع سقف المطالب الشعبية التي حملتها جماهير المحتجين لتصل إلى حد القول "إن الشعب يريد إسقاط النظام"، فإن الجيش، على ما يبدو، قد خشي من أن تتحول تلك الانتفاضة الشعبية إلى ثورة مكتملة الأركان، تقوض دعائم الدولة المصرية العتيدة. عندئذ كان قرار العسكر التضحية بالرئيس مبارك مقابل المحافظة على بنية النظام الحاكم في مصر. ثورة أم انقلاب؟ يبدو أننا أمام حالة مثالية من التغير غير الدستوري في نظام الحكم، وذلك نتيجة لإرادة شعبية. إذ تولى الجيش المصري إدارة أمور البلاد بعد تنحي الرئيس مبارك، وصدرت على الفور جملة من المراسيم العسكرية عطلت العمل بالدستور وحلت البرلمان بمجلسيه (الشعب والشورى)، إضافة إلى ذلك تعهد الجيش بتسليم السلطة للمدنيين بعد إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة. بيد أن السؤال الجوهري هنا يتمثل في تفسير ابتهاج المصريين وتأييدهم لهذا الانقلاب الشعبوي الذي قام به الجيش المصري. ولعل الإجابة عن ذلك تبدو ببساطة شديدة متعلقة بأمرين مهمين: أولهما؛ ثقة الغالبية العظمى من المصريين في المؤسسة العسكرية واعتبارها قوة دافعة إلى تحقيق المصلحة الوطنية. ولا تزال صورة جيش الرئيس جمال عبد الناصر الذي قام بتحقيق تطلعات الجماهير عام 1952 هي التي تهيمن على عقل ووجدان كل المصريين. أما الأمر الثاني فإنه يتعلق برؤية المصريين لمعنى الثورة الحقيقية، حيث تم الاكتفاء بإسقاط الرئيس مبارك . ويمكن تفسير ذلك بأنه على مدى 30 عاماً استطاع نظام مبارك القضاء على الهياكل والمؤسسات التنظيمية لجماعات المعارضة من خلال إصدار أحكام بالسجن والاعتقال على المعارضين والقضاء على أي زعامة محتملة تمثل تهديدا لسلطة الرئيس مبارك. ولعل ذلك يفسر لنا رفض الرئيس مبارك تعيين نائب له منذ توليه السلطة عام 1981. ومن جهة أخرى، فإن الانتفاضة الشعبية التي استمرت لأكثر من أسبوعين لم تستطع أن تفرز قيادة موحدة تلتف حولها الجماهير، وهو ما يعني أيضاً أن الانتفاضة افتقدت وجود هياكل تنظيمية واسعة وفعالة. إن ما حدث في مصر ــــ هو بكل المقاييس ــــ يمثل انتفاضة شعبية عفوية، استلهمت روح ثورة الياسمين في تونس التي أطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي. لقد حمل الشباب المصري ولا سيما في المناطق الحضرية الشعلة من أجل المطالبة بالحرية والكرامة لجميع المصريين، والتخلص من نظام الاستبداد الذي التف حول أعناقهم على مدى عقود ثلاثة. وسرعان ما انتقلت روح الثورة إلى الجماهير من مختلف الشرائح الاجتماعية والطبقية حتى أضحت رياح التغيير تسير في المجتمع سريان النار في الهشيم. وأحسب أنه في غمرة احتفال المصريين بانتصار ثورتهم المجيدة، فإن ثمة احتفالاً موازياً من قبل المؤسسة العسكرية المصرية وحلفائها في الداخل والخارج، أي من قبل النخبة الاقتصادية المصرية وشركائها الدوليين ولا سيما الولايات المتحدة والدول الغربية. إذ أظهر هؤلاء جميعاً ارتياحا شديداً من نجاح الجيش المصري في إدارة الأزمة، وضمانه نقل السلطة بطريقة سلمية. ويستطيع المتابع للخطاب الدولي وتحديداً الأمريكي والإسرائيلي فيما يتعلق بتطور الأحداث في مصر، أن يلاحظ التركيز الشديد على ضرورة المحافظة على بنية النظام الحاكم في مصر وتوجهاته الاستراتيجية الأساسية. ولعل المثال الواضح هنا هو دعوة أي حكومة مصرية في مرحلة ما بعد مبارك إلى احترام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. كما أن محاولة الرئيس باراك أوباما إجراء نوع من المشابهة بين الثورة المصرية وثورات أوروبا الشرقية في مرحلة ما بعد عام 1989، التي أفرزت نظماً ديموقراطية موالية للغرب وفلسفته الليبرالية، تحمل العديد من المعاني والدلالات بالنسبة لمستقبل السياسة والحكم في مصر في مرحلة ما بعد مبارك. الجيش وإدارة الأزمة إن وجهة مصر في المرحلة القادمة ستتحدد معالمها استناداً إلى عدد من المتغيرات الأساسية، لعل أبرزها يتمثل أولا في طريقة تعامل الجيش المصري بالتشاور مع حلفائه الاستراتيجيين في الداخل والخارج مع حالة المد الثوري الطاغية في المجتمع المصري الراهن. فهل يتمكن الجيش من احتواء الحماس الثوري لدى جماهير الشباب العريضة، التي بدت تأخذ منحنى راديكالياً يميل إلى المطالبة بدولة ديموقراطية عصرية غير منقوصة. أما المتغير الثاني فهو يرتبط برد فعل العناصر الثورية من الشباب والحركات الإسلامية على سياسات الجيش في إدارة المرحلة الانتقالية، ولا سيما رغبته التي أعلن عنها مرارا بضرورة عودة الحياة في مصر إلى طبيعتها المعتادة؛ حتى يسير دولاب العمل ويتم تعويض ما فقدته مصر من موارد طيلة أيام الثورة. ولعل المؤشرات العامة التي يمكن استنباطها من البيانات العسكرية التي صدرت عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تشير إلى أن الجيش يريد إعادة الأمور إلى نصابها بعد إجراء بعض الإصلاحات التجميلية على بنية النظام الحاكم، ورفع جزئي أو كلي لقوانين الطوارئ مع إجراء انتخابات تفضي إلى إفراز "قيادات معتدلة" في نهاية المطاف. ويبدو أن الولايات المتحدة والدول الغربية حتى إسرائيل تدفع في هذا الاتجاه، وهو ما يمكن أن نسميه "الإصلاح المشروط" في مصر. ولعل المؤسسة العسكرية المصرية تدرك أن استمرار المساعدات الأمريكية والمحافظة على الروابط الاستراتيجية مع الولايات المتحدة رهن بالمحافظة على طريق التغيير في مصر، حيث لا يؤدي إلى تدمير كلي لبنية النظام الحاكم. ولعل فهم التحول في أدوار الجيش المصري منذ عام 1952 حتى اليوم يساعد على الفهم والتفسير. فالجيش المصري عام 2011 يختلف اختلافاً كبيراً عن الجيش الناصري. إنه يقوم اليوم بأدوار اقتصادية وتنموية، ولديه العديد من الشركات التي تنتج سلعاً مدنية بلغت قيمتها في عام 2008 نحو 1.4 مليار جنيه مصري. السيناريوهات وآفاق المستقبل يمكن تصور سيناريوهات ثلاثة لمستقبل السياسة والحكم في مصر بعد مبارك، وذلك على النحو التالي: السيناريو الأول: تحقيق إصلاح جزئي بشكل يحافظ على مصالح الجيش والنخبة الاقتصادية الوطنية. ولعل ذلك يضمن كما ذكرنا آنفاً استمرار تدفق الأموال الأمريكية على مصر، ويحافظ على الخيارات الاستراتيجية للدولة المصرية التي هي موالية للغرب وإسرائيل. بيد أن الإشكالية الكبرى هنا تتمثل في أن مطالب الغالبية الساحقة من المصريين هي ذات طابع اقتصادي. فالمعاناة من الظلم الاقتصادي والفقر تتجاوز في حدتها المطالب السياسية المنادية بالحرية وحماية حقوق الإنسان. وعليه؛ فإن هذا السيناريو قد يدفع إلى هبة احتجاجية أخرى في مصر تفضي في هذه الحالة إلى ثورة شعبية مكتملة الأركان تكون نتيجتها السقوط الفعلي للنظام بعد تدمير بنيته التنظيمية والفكرية. السيناريو الثاني: تحقيق ديموقراطية على النمط الغربي، وذلك طبقاً للوصفة الأمريكية. وفي هذه الحال ستحاول الولايات المتحدة جاهدة كما حدث في أوروبا الشرقية أن تستميل عناصر المعارضة المصرية بالإغراءات المادية تارة وبرامج التدريب على التحول الديموقراطي تارة أخرى، وذلك من أجل إفراز نخب سياسية جديدة موالية للغرب. ويبدو أن نجاح هذا المخطط الأمريكي سيدفع بالتجربة المصرية إلى أن تحذو حذو العراق، وإن اختلف السياق العام في كلتا الحالتين. ويبدو أن عدم الحديث عن التوجهات الخارجية لمصر في أثناء الاحتجاجات الشعبية يؤكد أن مطالب الشباب والمحتجين كانت موجهة إلى الداخل المصري بالأساس. السيناريو الثالث: وهو توفيقي بين الأول والثاني، حيث يمكن للجيش المصري أن يعتمد على سياسات وخطط خاصة بالإصلاح الجزئي أو المشروط، حيث يتم إبعاد العناصر الراديكالية والمناوئة للغرب من الوصول إلى سدة السلطة في مصر. وأحسب أنه في هذه الحالة يمكن أن تسير مصر في اتجاه تبني النموذج التركي، ولا سيما فيما يتعلق بدور حركات الإسلام السياسي، ومحاولة إحياء الدور الإقليمي الفاعل لمصر في إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. ولعل الجيش هنا يمارس دور الحارس والضامن لضبط مسيرة الإصلاح والتغيير في مصر. وعلى أي حال فإن ما قام به المصريون يمثل ثورة غير مسبوقة في التاريخ المصري المعاصر، استطاعت أن تطيح بنظام الاستبداد بشكل سلمي وعفوي. بيد أن ذلك يمثل خطوة أساسية نحو طريق التغيير، ولا تزال التحديات قائمة وكثيرة. فهل يقنع المصريون بمجرد الانقلاب الشعبوي الذي خلصهم من نظام مبارك، أم يستكملون ثورتهم حتى تحقيق المجتمع الديموقراطي المنشود؟!
إنشرها