Author

قطارات المدن والمشاعر بين النقل والأمانات

|
بدأ تنفيذ قطار المشاعر من قبل وزارة الشؤون البلدية والقروية كأول مشروع سكة حديد ينفذ داخل نطاق المشاعر المقدسة، لكنه ليس أول مشروع قطار في المملكة. وبعيداً عن مناقشة مدى معقولية وعدالة تكلفة القطار, أو مدى الحاجة إلى التمويل من المال العام في ظل مناسبة مثل هذه الخدمات للتخصيص ومشاركة وتمويل واستثمار القطاع الخاص فيها أو مدى تحقيقه أهداف المشروع أو مدى جودة سكة القطار والقطار نفسه ومقارنتها بمشاريع مماثلة إقليمياً وعالمياً، ينبغي الحديث بجدية عما يحدث في الواقع من توجه حديث وغير مسبوق لأمانات المدن لإنشاء قطارات داخل المدن، بدءا بإنشاء قطار المشاعر، دون وجود أي خبرة عملية أو علمية لدى هذه الجهات في هذا المجال، ناهيك عن وجود جهة منوط بها تطوير وإنشاء وإدارة سكك الحديد والقطارات، وهي المؤسسة العامة لسكك الحديد، لا تملك الخبرة الطويلة فقط, لكن ينبغي دعمها والاستثمار فيها لترقى بخدماتها ومشاريعها وبمعايير وبمواصفات عالمية، إضافة إلى أن وزارة النقل أو المؤسسة العامة لسكك الحديد هي الجهة المخولة تشريعياً بتنفيذ سكك الحديد والطرق الرئيسة والجسور والأنفاق داخل المدن وخارجها. ما حصل في قطار المشاعر هو اجتهاد من بعض المسؤولين لتوفير خدمة القطار، وبدلاً من الاستعانة بوزارة النقل أو المؤسسة العامة لسكك الحديد، قامت هذه الجهة بالعمل على تخطيط وتصميم والتعاقد مع شركة خارجية لتنفيذ القطار، مع قيام الجهة نفسها بالإشراف على تنفيذ القطار، مشروع يتم تنفيذه لأول مرة في هذه الجهة وفي ظل عدم توافر الخبرات البشرية والمعلوماتية، ما يعني أن هناك مساحة كبيرة للتعلم من هذا المشروع واحتمال حدوث أخطاء مع عدم القدرة على التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها، وهذا متوقع ومتعارف عليه في منهجية إدارة المشاريع، فالعمل على مشاريع متماثلة توفر لفريق العمل والجهة الخبرة والدراية والمعلومات الدقيقة المطلوبة للتعامل مع مثل هذه المشاريع في المستقبل وهو ما لم يتم توافره في الجهة المنفذة لقطار المشاعر. إذا كانت وزارة النقل منوطا بها تطوير وإنشاء الجسور والكباري والطرق السريعة داخل المدن بحجة عدم توافر الخبرة لدى الأمانات من ناحية وتوافر مثل هذه الخبرات لدى وزارة النقل، خبرات تراكمية لا تضمن فقط نجاح تنفيذ المشروع وتحقق الفوائد المرجوة منه، لكن أيضا يوفر في تكاليف المشروع الرأسمالية والتشغيلية، نقول إذا كان هذا هو الحال بالنسبة للجسور والكباري والطرق السريعة، فمن باب أولى أن يتم التعامل مع سكك الحديد والقطارات بالآلية نفسها، آلية تضمن تحقق الفوائد المرجوة من هذه المشاريع وتقلل من تكاليف المشاريع، خصوصاً أننا نسمع الآن عن مبادرات هنا وهناك لإنشاء سكك حديدية وقطارات داخل بعض المدن الرئيسة مثل الرياض وجدة، مبادرات صادرة من أمانات هذه المدن، وهي أيضاً جهات تعمل على مثل هذه المشاريع لأول مرة، وضع يحتم دخول هذه الجهات في منحنى تعلم يكلف الدول أموالاً طائلة سواء في التكاليف التشغيلية أو مصروفات التشغيل والصيانة المستقبلية من ناحية مع عدم وجود مشاريع مستقبلية مماثلة للاستفادة من الخبرة المكتسبة في هذه المشاريع، ما يثير التساؤل عن ماهية المستفيد من تشتت مسؤولية تخطيط وتنفيذ مشاريع سكك الحديد والقطارات في المملكة بين عدة جهات حكومية مختلفة، مع وجود مرجعية قانونية لمثل هذه المشاريع. كما أننا نستغرب اعتماد مشاريع إنشاء سكك الحديد والقطارات في المملكة في الدعم المالي على خزانة الدولة، في ظل إمكانية الدخول في شراكة استراتيجية وحقيقية مع القطاع الخاص، بل طرح مثل هذه المشاريع كشركات تجارية، مع خضوعها لتنظيم حكومي من خلال هيئة حكومية لسكك الحديد تعنى بتنظيم وإدارة القطاع. إذا أردنا أن نحدد قائمة مقبولة ومرغوبة وناجحة ومربحة من الخدمات والنشاطات الحكومية لتحويلها إلى القطاع الخاص ــ تخصيصها ــ فهي بدون شك تشمل: النقل من خلال السكك الحديدية والقطارات بجميع خدماته ومنها نقل الركاب والبضائع، والنقل الجوي بجميع خدماته ومنها نقل الركاب، إضافة إلى قطاع الاتصالات, الذي بدأ تخصيصه في نهاية التسعينيات، وليس تخصيص خدمات ونشاطات حكومية لا يمكن الاستغناء عن دعم الدولة المالي لها مثل المياه والصرف الصحي والخدمات البلدية والصحية. من الواضح أننا نعيش في حمى تسمى حمى المشاريع، من ظواهرها كثرة عددها وارتفاع تكاليفها وسرعة تنفيذ لها قد تفوق سرعة الضوء، ومبادرة الجميع في طرح وتنفيذ المشاريع، فكل يوم تسمع عن مبادرات ومشاريع جديدة وكأن الهدف الحصول على الثناء في طرح الأفكار والمبادرات وليس نجاح المشروع، مشاريع تنفذ دون وجود رؤية وخطة استراتيجية شاملة ينتج عنها برنامج متكامل للمشاريع ويتضمن البرنامج الزمني وميزانية تقديرية، ودون وجود جهاز مركزي يشرف ويتابع ويراقب فنياً هذه المشاريع للتأكد، ومن خلال نظام مؤشرات أداء دقيقة يومية وأسبوعية وشهرية، من حسن أداء ومستوى وجودة هذه المشاريع وتمشيها مع الخطة الاستراتيجية للدولة ومن تحقيق أعلى عائد ممكن للاستثمار في هذه المشاريع ــ لكل ريال يجب أن نحصل على أكثر من ريال كعائد، بدلاً من الانتظار سنوات وسنوات لنكتشف فشل المشاريع إما لعدم تنفيذها أصلاً وإما لسوء تنفيذها، نتائج يترتب عليها هدر مالي وضياع وقت وتأثير اقتصادي سلبي من خلال التحويلات الخارجية للشركات والعاملين الأجانب في جميع المشاريع. ما يحصل حالياً في المشاريع، ومنها مشاريع القطارات وسكك الحديد، من تشتت في المسؤوليات وعدم استفادة من الخبرات المتاحة لدى الجهة المرجعية في المشاريع ذات العلاقة، وعدم وجود رؤية وخطة شاملة للمشاريع وعدم جدولة للمشاريع ليس من مصلحة الوطن على المدى الطويل. وللحديث بقية...
إنشرها