سمعت ذات مرة مسؤولاً أوروبياً رفيع المستوى، يعلق قائلاً إن مشكلة نشر الديمقراطية كانت أن جورج دبليو بوش هو المُبشّر بها. ولديه وجهة نظر بهذا الصدد: انحدر العراق حديثاً باتجاه فوضى دموية. وطالما كان الرئيس في ذلك الوقت هو رئيس الحُداة الهُداة، كان من الصعب للغاية الترويج للديمقراطية.
أصبحت القيم الغربية منذ ذلك الحين غير شعبية. وفي بداية الأمر، جاء الإدراك في فترة ما بعد العراق بأنه ليس من السهولة بمكان فرضها بقوة الصواريخ العابرة. ثم اتضح للمحافظين الجدد، ومناصري الحرية الدوليين أن ثمة المزيد من كل هذا بأكثر من مجرد صندوق الاقتراع.
هناك مسائل صغيرة، مثل سيادة القانون، وجود قضاء مستقل، ومؤسسات قوية. ويجب أن تناسب كل هذه المسائل الظروف الثقافية. والدرس الذي يمكن الاستفادة منه من أفغانستان هو أن الغرب يفتقر إلى القدرة على بناء أمة.
تحول ميزان القوة العالمية بأسرع مما تخيل أي شخص. كان سيكون من الأسهل على الدوام بالنسبة لأي رئيس أمريكي الصعود إلى المنصة حينما شعرت واشنطن بالأمن حينما كانت مهيمنة. وساهمت القوة المتراجعة للولايات المتحدة، وسرعة نهضة الصين، والحكم الاستبدادي في روسيا الغنية بالنفط، في تهدئة أي حماس متبقٍ لأي مُهمّة.
ما زال الساسة الأمريكيون والأوروبيون يبشرون بفضائل الحرية والديمقراطية، ولكن يتم تقديم العظات بصوت هامس. وغالباً ما ترسم وسط اليسار الأوروبي قيم الديمقراطية بألوان الإمبريالية الغربية. وفي ظل هذا الالتواء الغريب، فإن تعزيز حقوق الإنسان يعد بطريقة ما عملاً قمعياً.
شهد النجاح الانتخابي لحركة حماس الفلسطينية تحذير كتاب السياسة الخارجية الواقعيين باعترافهم الذاتي، من أننا يجب أن ننتبه لما نتمناه. وتعد الانتخابات مناسبة وجيدة طالما ينتج عنها الحل الصحيح. وربما يُنتج الشرق الأوسط حلاً خاطئاً إلى حد كبير.
#2#
في جميع الأحوال، فإن هناك مساومات جيوسياسية، وصفقات تجارية مربحة ينبغي عقدها مع أنظمة قمعية. وفي العصر الجديد للواقعية السياسية، تثني حكومة ديفيد كاميرون البريطانية بصوت عالٍ على إلقاء عملاق الطاقة ''بريتش بتروليوم'' ذاته في أحضان روسيا الخاصة بفلاديمير بوتين. ويبسط الاتحاد الأوروبي السجادة الحمراء لطغاة مثل الرئيس الأوزبكي إسلام كاريموف.
كشفت الأحداث، منذ فترة طويلة، عن أن توقعات مسيرة الديمقراطية التي لا يمكن مقاومتها هي مجرد تفاهات متغطرسة لفترة ما بعد الحرب. وتسلق العلماء الذين تخيلوا في الماضي عالماً من الديمقراطيات البراقة عربات أخرى. إنهم يرون الآن تحدياً منبثقاً من نموذج جديد واثق بذاته من الدول الرأسمالية. وعلى أقل تقدير، حسبما تسمع هؤلاء النقاد يقولون، أنجز هؤلاء الاستبداديون الأمور تماماً.
كانت الديمقراطية في تراجع كذلك على أرض الواقع. وتقدر ''فريدم هاوس'' المؤسسة الفكرية في واشنطن التي تتابع مصائر التعددية السياسية، أن الحرية العالمية عانت ''في 2010 تراجعا للسنة الخامسة على التوالي.
انخفض عدد البلدان الذي يستحق تسميته بلد ''حر'' من 89 إلى 87 بلداً، وانخفض عدد الأنظمة الديمقراطية المنتخبة إلى 115 نظاماً – بأقل من ثمانية مقارنة بـ2005. وليس عليك أن تتفق مع المنهجية الدقيقة لـ ''فريدم هاوس'' بأن للاستبداديين اليد العليا.
قبل خمسة أعوام، وعد بوش بإحداث تغيير ديمقراطي في الشرق الأوسط. تم التخلي عن الطموح في خطاب تنصيبه الثاني، في اللحظة التي تكلم فيها. وحالما تم الاتفاق على أن الإنصات إلى صوت الشارع العربي، كانت هنالك مخاطرة بتمكين المتطرفين مثل حماس. ومن الأفضل التراجع إلى وضع الحرب الباردة المريح بالتودد إلى طغاة ودودين، حتى يصبح بإمكان المستبدين النوم بسهولة مجدداً.
على الرغم من ذلك، كانت هناك مشكلة ما دائماً، فالشعب مثل الديمقراطية تماماً، فالبلدان الناهضة يمكن أن تدين الإمبريالية الأمريكية والتدخل الأوروبي وتكره شعور الغرب المتأصل بتفوقه. غير أن الحرية وسيادة القانون والكرامة الإنسانية، مسائل فيها جاذبية تتعدى نطاق الغرب.
هذا ما شهدناه في تونس. كشفت الثورة التي وضعت نهاية لحكم زين العابدين بن علي، الذي دام 23 عاماً ما كانت تعرفه الحكومات الغربية دائماً، ولكنها فضلت نسيانه. فحتى أكثر الأنظمة الاستبدادية أمناً كما يتضح، تعد ضعيفة أمام السخط الشعبي.
حتى اللحظة التي اضطر فيها بن علي إلى الهروب من تونس، كانت الأنظمة الديمقراطية الغنية تلتزم جانب ''الاستقرار'' ضد نبض الشارع.
أظهرت فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، سخريتها تحديداً. ولكن الجميع تقريباً كان يغض النظر طالما كان النظام ''مؤيداً للغرب''.
من المستحيل توقع الآثار في مكان آخر في الشرق الأوسط. وينظر البعض إلى الإطاحة ببن علي على أنها شعلة فتيل بطيء الاحتراق، مقارنة بمولد حركة التضامن في بولندا، في موقع بناء السفن في جدانسك 1980. ويشير آخرون إلى أن بالإمكان الإطاحة بأنظمة قمعية أخرى ـــ غالباً ما يأتي ذكر بلد معيّن ـــ في وقت أسرع. وفي كل الأحوال، من الواضح أن بروز الشباب، والصعوبات الاقتصادية، والإحباط الشعبي، تشعل من جديد جمرة الديمقراطية.
على الولايات المتحدة، وأوروبا، أن تفكرا مجدداً. قبل بضع سنوات، تحدث وزير خارجية أمريكي في القاهرة عن الفشل الواضح لسياسة دعم الطغاة في الشرق الأوسط، التي يعود تاريخها إلى عقود قديمة. وقد زرعت بذور التطرف العنيف، وضحّت بالاستقرار طويل الأجل لمبدأ النفعية. أدركت كونداليزا رايس الأمر بشكل صحيح. ولسوء الحظ، كانت تعمل لمصلحة بوش.
كانت الثورة التونسية بمنزلة تذكير لقوة الأفكار السياسية، والدفع الشعبي للديمقراطية.
لم يندفع المحتجون إلى الشوارع، في تونس أو غيرها، لدعم القيم الأمريكية أو الأوروبية، بل فعلوا ذلك للمطالبة بالحرية والكرامة التي منحتها الأنظمة التعددية.
إن واحداً من الأمور اللافتة للنظر بشأن عالم اليوم: هو أنه مليء بالطغاة الذين يتظاهرون بأنهم ديمقراطيون. وتريد حتى الأنظمة التي تكره كل شيء له مذاق النموذج الغربي، الادعاء بالشرعية التي منحتها لها الخيارات الديمقراطية.
لدى بكين وجهة نظر أكثر غموضاً مما يبدو في الغالب. شهد هذا الأسبوع اعتراف هو جينتاو، الرئيس الصيني، بأن على الصين أن تفعل ما هو أفضل بشأن حقوق الإنسان. في روسيا، يشعر حتى بوتين بأنه مضطر إلى الإشادة اللفظية بسيادة القانون.
لا يعد أي من هذا حجة لشن حملة على غرار الحملة التي شنها بوش. ولكن على الغرب أن يبدي ثقة أكبر بكثير في القيم العالمية، إذ إن معاملة العالم كما هو شيء، وأن تجد نفسك ضمن فريق من أمثال بن علي شيء آخر.
لم يكن التاريخ لينته على الإطلاق. ولكنه يبقى، على أي حال، إلى جانب الديمقراطية.


