Author

الاستمرار في الاعتماد على التمويل الحكومي يقيد الاقتصاد السعودي

|
الدرس الذي أخذه العالم منذ 2008 وحتى اليوم، لم يأت موعد اختبار الدارسين بعد. وسيكون اختبارا في صميم مبادئ النظام الرأسمالي بقيادة القوى الغربية. وفي أسس هذه الرأسمالية الأمر الذي ما زال يسبب هزات ارتدادية واضحة بين الحين والآخر إلى أن يتم أولا الاعتراف بأسباب المشكلة الحقيقة وليس بالقشور، ومن ثم البحث عن حل. ومشكلة النظام الرأسمالي التي أدت إلى النتائج السيئة التي نعيشها اليوم عالمياً أنه نظام لا يشبع. نهم يريد أن ينمو دون حدود. يريد مزيدا دون أن يكون هناك قاع. يريد السيطرة دون إحساس. والنتيجة أن العالم كله مر خلال سنتين فقط (2008 إلى 2010) بأسوأ أزمة مالية يشهدها خلال الـ 80 عاماً الماضية. ولم ولن ينقشع غبارها حتى يبدأ العالم بحوار حقيقي حول أسباب ما حدث، حيث تجددت المخاوف بعد أزمة دول أوروبية بدأت باليونان ومن ثم إيرلندا وقد تنتهي بإسبانيا وإيطالياً، وقد تودي بمنطقة اليورو، وإن كنت لا أعتقد أن ذلك الأمر وراد. وهو الأمر الذي حدا بالمجتمع الغربي إلى الحديث عن نظام رأسمالي جديد يتناسب مع الوضع الذي وصلت إليه الأمور، لكن من خلال محاولات فرض أجندة هذا النظام عبر الأدوات التي يملكها هذا العالم الغربي. وقد يكون شرسا جداً في هذا المسعى. وكما يعرف الجميع أن محور المشكلة في التمويل والمفهوم الذي يسيره العالم الغربي للائتمان. فقد بلغ حجم التمويل في بعض الدول أضعاف حجم الناتج المحلي وعلى رأس هذه الدول قائدة الرأسمالية العالمية أمس واليوم الولايات المتحدة. وفي أحسن الأحوال في حدود 100 في المائة من الناتج المحلي لتلك الدول. وعموماً لا توجد دولة في العالم تجاوز حجم التمويل 100 في المائة الناتج المحلي إلا وتواجهها مشكلة في إدارة دفة اقتصادها! فتركيبة التمويل عندما تتجاوز حجم الاقتصاد الحقيقي لأي بلد تخلق مشاكل متعددة للسياسة المالية والنقدية. فقد بلغت العمليات المالية أكثر من 600 تريليون دولار، فيما الثروة الحقيقية والاقتصاد الحقيقي لا يتجاوز 60 تريليون لكل دول العالم. يعني أن هناك 90 في المائة مضاربات في أنشطة غير حقيقية ساندها الإفراط في التمويل! وستتطاير تأثيراتها السلبية لتشمل العالم ليس من حيث تأثيرها مباشرة، ولكن من حيث الضبابية على الشكل الاقتصادي للعالم مع أزمة كهذه، رغم أن لا بدائل مطروحة حتى الآن عن المفهوم الغربي للمشكلات والحلول. #2# في المقابل جاءت الأزمة وقد مرت المملكة على المستوى المحلي بتطورات كبيرة لا يمكن تجاهلها منذ أكثر من خمسة أعوام، وتحديدا منذ تولي خادم الحرمين الشريفين مقاليد الحكم في هذه البلاد المباركة، والنتيجة أنه بالقدر الذي تبذل جهود جبارة للتحديث وإعادة قراءة الأمور على المستويات كافة، تزيد التحديات علينا في سبيل إيجاد مكان لنا في خريطة تتحرك اليوم في طريقها لتتشكل بتوزيع جديد للعالم! في ظني هذا هو مصير الأمم الحية، أما الميتة فهي ميتة وإكرامها في دفنها، وبالتالي ـــ انتهت ــ الرواية كما يقال. لقد أثبت الملك أن هناك إمكانية وأن هناك أملا إذا ما خلصت النوايا وهمشت الأنا، وأن كلام نزار وتأكيد غازي ''أزفُّ إليك الخَبَرْ! لقد أعلنوها.. وفاَة العربْ'' ليس قدراً محتوماً. وإن كان المشوار طويلا ولكن يجب أن يكون هناك أمل! لقد مرت المملكة خلال نصف قرن بتطورات كبيرة على الأصعدة كافة. وفي مجال التمويل تحديداً الذي يعد محركا رئيسيا لكل خطط التنمية السابقة. فدون هذا التمويل المباشر وغير المباشر، سواء لقطاع الأعمال أو للمواطن مباشرة، ما كان في الإمكان تحقيق الأهداف التنموية في أبعادها المختلفة كافة. ولإعطاء صورة عامة عن تركيبة التمويل اليوم في المملكة، ونحن في عام 2010، نجد أن هناك أربعة مصادر للتمويل في المملكة منها ثلاثة رئيسة: المصدر الأول التمويل الحكومي الذي يأتي من صندوق الاستثمارات العامة والصناديق التنموية الأخرى، وقد اقترب حجم التمويل ''القائم'' منها نحو 180.5 مليار ريال قرب نهاية عام 2010. ولا يزال هذا التمويل يمثل المصدر الأول للتمويل والتنمية مدعوماً بإيرادات نفطية قوية وحجم إنفاق أيضا قوي لتنفيذ مشاريع ضخمة في البنى التحتية، وفي إيجاد مشاريع يخطط لها لتكون مصدر دخل في المستقبل للدولة بعد تراجع إيرادات النفط. فيما يأتي المصدر الثاني من القطاع المصرفي الذي تجاوز حجم التمويل ''القائم'' اليوم 777 مليار ريال مع نهاية العام المالي 2010، وهو عنصر ثان وداعم مهم للعنصر الأول. ويمثل التمويل الاستهلاكي من هذا التمويل فوق مستوى 200 مليار ريال بقليل، وهو ما يعادل 25 في المائة من هذا التمويل. وهي نسبة تعد معقولة، ما يعني أن أكثر من 577 مليار ريال هي نشاط تمويلي للقطاع الخاص. أما المصدر الثالث للتمويل وهو مصدر يعد غير رسمي، وإن كان في بعض فروعه ''نظاميا'' (بمعنى أنه مرخص له تجاريا)، وهو ما أصبح يعرف اليوم في قطاع التقسيط والبيع بالآجل، والذي برز أخيرا نتيجة عامل بسيط وهو أنه غير خاضع لأي نوع من أنواع التنظيم أو الإشراف، وبالتالي لا تحكمه أنظمة تحد من قراراته أو رغباته في التوسع، ومع الأسف لا توجد أرقام رسمية حول حجم التمويل من هذا المصدر وإن كانت هناك اجتهادات. وقد نشرت دراسة شخصية عن شركات التقسيط قبل نحو عامين أو أكثر رجحت أن حجم التمويل من هذا المصدر يتجاوز 100 مليار ريال (متحفظ جداً) وإذا ما تمت إضافة البيع بالآجل نجد أنه قد يتجاوز 150 مليار ريال. فيما يتجاوز عدد اللاعبين حسب بيانات وزارة التجارة 380 شركة تقسيط! والجدير بالذكر أن كل هذا التمويل يذهب لأغراض استهلاكية وليست إنتاجية. والمصدر الرابع: هو الصكوك والسندات التي من الواضح أن هناك رغبة في تطويرها، وبالذات تلك الصادرة من الشركات الكبيرة، على أمل خلق سوق ثانوي للتمويل وبالذات مع التوجهات فيما يخص التطوير العقاري، السكني منه على وجه الخصوص. ولكنه مصدر في حاجة إلى حديث طويل ومفصل. وحسب الجداول المرفقة يتضح تفاصيل التمويل في المملكة ونسب النمو. وبالتالي نجد أن حجم التمويل من مصادره الثلاثة الرئيسة في المملكة يتجاوز تريليون ريال (ألف ألف مليون ريال)، وهو ما يعادل نحو 65 في المائة من الناتج المحلي (بالأسعار الجارية) لعام 2010 حسب توقعات مصلحة الإحصائيات العامة والمعلومات 1630 مليار ريال. أما لو أخذنا نسبة التمويل من المصدر الأول وهو الحكومي نجد أنه يمثل نحو 11 في المائة من الناتج المحلي، والمصدر الثاني يمثل نحو 48 في المائة من الناتج المحلي، فيما المصدر الثالث وعلى افتراض أنه نحو 100 مليار ريال فإنه يمثل نحو 6.1 في المائة. ولكن نجد أن المنشآت القادرة على الاستفادة من المصدر الأول أو الثاني للتمويل لا تتجاوز 7.8 في المائة من عدد المنشآت العاملة حسب بيانات ''التأمينات الاجتماعية'' التي لديها نحو 200 ألف منشأة مسجلة. والخلل هو كما قلنا نتيجة مستوى المهنية التي يعيشها القطاع الخاص، وبالذات المنشآت الصغيرة والمتوسطة التي هي بحاجة إلى إعادة هيكلة حقيقية حتى تكون إضافة لا عبئا على اقتصاد المملكة. وملاحظاتي على تركيبة التمويل في المملكة كما يلي: أولا: لا تزال الدولة وبعد مرور ما يقرب من نصف قرن على التوسع في خطط التنمية المصدر الأول للإنفاق ولحركة الاقتصاد، ودونها تصاب كل القطاعات بشلل كبير. وهو أمر يجب إعادة النظر فيه. ويعد إحدى السلبيات التي تؤخذ على اقتصاد المملكة. وإن كان يحقق أهدافا سياسية للمملكة، ولكنه أيضا يشكل خطرا على القدرة على الاستمرار. قد كانت هناك تجارب سابقة عندما تراجعت أسعار النفط وتوقف الإنفاق الحكومي، أصبح هناك شبه ركود في اقتصاد المملكة. ومنتصف التسعينيات الميلادية شاهد على ذلك بعد حرب الخليج! ثانياً: تنوع أغراض التمويل وبالذات الممنوحة من المصدرين الأول والثاني (الحكومي والمصرفي) فنجد أن تركيبة التمويل موجهة إلى الشركات الكبيرة جداً والتي حصلت على ما يزيد على 73 في المائة من حجم التمويل المصرفي. والباقي ذهب للتمويل الاستهلاكي الفردي. فيما المنطقة التي تمثل أكثر من 85 في المائة من عدد المنشآت في المملكة وحسب بيانات وزارة العمل 99 في المائة نجد أنها غير قادرة على الحصول على تمويل حتى من الحكومة. ولأسباب منطقية تتجسد في تركيبة القطاع الخاص ومستوى المهنية والشفافية وعناصر كثيرة ليس المجال هنا لشرحها. وقد سميت ''قطاع الوكالات والإتاوات''. فيما التمويل الحكومي خاضع لقرارات سيادية! ثالثاً: ضرورة تكثيف التنسيق في برامج التمويل بحيث تؤدي دور تكاملي فيما بينها بدلاً من دورا تنافسيا وأيضا حتى يصب في خدمة تحقيق برامج التنمية بشكل يساعد على النمو المطلوب. فالنتائج المتحققة لا تعكس الجهود الكبيرة المبذولة والمبالغ المدفوعة ولا يزال هناك عدم رضا واضح على الدور الذي يلعبه التمويل في المملكة. وبالذات عندما نتحدث عن التمويل الحكومي الذي يأتي عبر صناديق التنمية، فهي بحاجة إلى زيادة مستويات المهنية الإدارية، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أعطيت هذه الصناديق مميزات ومرونة في إدارتها تحقيقاً لأهدافها. فمن خلال بيانات الميزانية العامة للدولة للعام المالي 1431/1432 والنتائج المالية للعام، فقد بلغ ما منح من قبل صناديق التنمية وبرامج الإقراض الحكومي منذ إنشائها حتى عام 2010 نحو 414.3 مليار ريال. فما هي انعكاساتها الإيجابية على أرض الواقع؟ رابعاً: وجود مصدر ثالث للتمويل أمر طيب وضروري ولكن عدم وجود تنظيم لهذا المصدر يفعل ما يشاء لا من ناحية طريقة التمويل أو مصادر الأموال التي يقرضها، ولا من ناحية القدرة على تطبيق السياسة النقدية والمالية من خلال هذا المصدر لعدم القدرة على التحكم فيما يفعله، كما هي الحال في القطاع المصرفي. حيث توجد الأدوات التي تساعد على التحكم فيه في حالات التوسع أو الرغبة في الانكماش. أما المصدر الرابع فيما لا نزال نتحاور على شرعيتها وعلى أمور أعتقد أنها ثانوية! خامساً: ضرورة الإسراع في تفعيل المصدر الرابع للتمويل وهو السندات والصكوك حيث تكون رافدا مهما ويعطي تنوعا في مصادر التمويل، والمملكة بأشد الحاجة إليه خصوصاً مع التغير النوعي في القطاع المالي والانفتاح الذي شهده خلال السنوات القليلة الماضية، ووجود رغبة في التوسع في مشاريع كبيرة تحقق أهداف التنمية والتكامل الخليجي، وكذلك فتح المجال لمشاريع الإسكان التي تقدر بأكثر من تريليون ريال كحاجة ملحة لمواجهة النمو في أعداد المواطنين. والله من وراء القصد.
إنشرها