Author

الاقتصاد العالمي يحتاج إلى «روشتة» عاجلة لوقف حرب العملات

|
الحرب التجارية المعروفة الآن باسم حرب العملات والتي دخلت بالفعل في حدود الحرب التجارية.. باتت تتهدد الاقتصاد الدولي وتنذر بأزمة عالمية مؤلمة قبل أن يستكمل الاقتصاد الدولي تعافيه ويقضي على آلام الأزمة المالية التي اجتاحته في عام 2007. ولقد أطلقت حرب العملات شرارتها الأولى بين الولايات المتحدة والصين، حيث تنفذ الولايات المتحدة ـــ منذ السبعينيات ـــ سياسة نقدية تهدف إلى خفض سعر الدولار، فهي تشتري العملات الأجنبية مقابل الدولار، ونذكر ــ على سبيل المثال ــ أنها اشترت المارك الألماني في عام 1985 واشترت الين في عام 1998 واشترت اليورو في عام 2000، ولكن الولايات المتحدة في هذه الأيام تطالب الصين أن ترفع سعر الياوان حتى ينخفض العجز التجاري الهائل للولايات المتحدة مع الصين. ويلاحظ المرء وهو يجوب كل أسواق العالم السلع الصينية تجتاح الأسواق العالمية بأسعار منخفضة وجودة بدأت تتحسن وتسبق غيرها من السلع والخدمات الآتية من أسواق الولايات المتحدة وحتى الاتحاد الأوروبي واليابان. ولذلك فإن اليابان والاتحاد الأوروبي وعددا من الدول الناشئة انضموا إلى الولايات المتحدة وأصبحوا يطالبون الصين برفع سعر الياوان قبالة العملات الأخرى، لافتين النظر إلى أن الولايات المتحدة قبل الصين كانت وما زالت ــ كما أشرنا ــ تنفذ سياسة نقدية تهدف إلى خفض سعر الدولار، ولكن الصين في المقابل تشتري ما متوسطه مليار دولار يومياً في محاولة منها لتجفيف الأسواق من الدولار وإبقاء سعر الدولار مرتفعاً وسعر الياوان منخفضاً. ولعلنا نلاحظ أن الأزمات المالية التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي.. هي أزمات تبدأ في الدول الغربية، ثم تتسلل إلى كل دول العالم، وحينما تأخذ صفة العالمية، فإن الدول من خارج الدول الغربية مجبرة على دفع الثمن لإصلاح النظام الاقتصادي الدولي الذي خربه الغرب، وإذا رجعنا إلى تاريخ صندوق النقد الدولي نلاحظ أنه نشأ خصيصاً لإيقاف عمليات حرب تخفيض العملات التي انطلقت من الأسواق الغربية في أربعينيات القرن الماضي. ومازال النظام النقدي الدولي يعانى ضعفا وهزالا في مواجهة الأمراض التي تحيق بالاقتصاد الدولي، ويجب على دول مجموعة العشرين ألا تعالج القشور فقط، بل يجب عليها أن تبحث في وضع نظام نقدي دولي جديد يعالج جميع المشاكل التي يعانيها النظام النقدي الدولي الحالي. وإذا كانت الصين لا تستجيب لنداءات الولايات المتحدة وتصر على بقاء العملة الصينية عند مستواها الحالي بانخفاض يصل إلى 20 في المائة تقريباً من السعر الحقيقي، إنما تفعل ذلك لأنها تعرف تماماً الضعف الذي يعانيه النظام النقدي الدولي الحالي، وهي لذلك تعمل على استغلال هذا الضعف فيما يعود عليها بالفائدة. أمّا بالنسبة للدول الناشئة كالبرازيل والهند وكوريا الجنوبية والأرجنتين، فقد وجدت نفسها في قلب حرب تجارية شرسة طرفاها الرئيسيان الولايات المتحدة والصين، وهذه الدول بدأت تتضرر من سياسة خفض العملات وأرادت أن تحمي نفسها، فركبت موجة خفض عملاتها والدخول كارهة في حرب العملات، بمعنى أن دولاً عديدة انتهجت سياسات نقدية تهدف إلى خفض عملاتها حتى تسحب جزءاً من الطلب عن السلع الصينية التي أصبح لها القدح المُعَلّى في جميع أسواق العالم، ويكاد كل إنسان سعودي يجوب الأسواق المحلية يدرك أن السلع الصينية تتميز بأسعار منخفضة جداً مقارنة بالسلع الواردة من الأسواق الغربية، أكثر من ذلك إذا ذهبنا إلى الأسواق في دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا نجد أن السلع الصينية يزيد الطلب عليها أكثر من نظيراتها السلع الغربية، بل لا نغالي إذا قلنا إن السلع الصينية باتت الخيار الأول في الأسواق الغربية. ولكن الانخفاض الواسع للعملات الذي أحدث اضطرابا في أسعار الصرف َحَدا بالكثير من الدول إلى العودة إلى النظام الضريبي وفرض المزيد من الرسوم الجمركية لرفع أسعار السلع الصينية، هذا السباق إذا استمر طويلاَ سيؤدي إلى التورط في كساد يقضي على التحسن الذي حققه الاقتصاد الدولي في السنتين الماضيتين. وهنا يجب أن نشير إلى أن دور منظمة التجارة العالمية لم يكن له وجود رغم أن دور هذه المنظمة كان يجب أن يكون قوياً إزاء إطفاء حرائق حرب العملات، لأن نظام التجارة الدولية الذي أرسته المنظمة سيتقوض بسبب حرب العملات، ولكن يبدو أن منظمة التجارة العالمية تغط في نوم عميق لأنها ما زالت أسيرة مصالح بعض الدول التي كان لها مصلحة في كل ما يجري حالياً في الساحة الاقتصادية العالمية. وفي ضوء ذلك نستطيع القول إن الاقتصاد الدولي بدأ يدخل مرحلة مفصلية من مراحل الحرب التجارية العالمية، وبدأت الدول تتحلل من الاتفاقات الاقتصادية التي وقعتها تحت مظلة منظمة التجارة العالمية التي كانت تسعى إلى خفض الرسوم الجمركية ما وسعها الجهد حتى يتحقق الهدف النهائي بوجود تجارة عالمية تتدفق بين الدول دون أي عوائق تذكر ودون رسوم جمركية أو بحدود دنيا للرسوم الجمركية. بمعنى أن سياسة تخفيض قيمة العملة تحقق أهدافها في المدى القصير وتكون مفيدة للدولة صاحبة العملة، ولكن هذه السياسة لا يمكن أن تستمر طويلاً في ظل عالم تحكمه المصالح الاقتصادية المتبادلة، لأن القاعدة التي تقوم عليها التجارة الدولية هي أن الفائدة التي تحققها دولة من الدول نتيجة تخفيض عملتها لابد أن تكون على حساب دولة أو مجموعة دول أخرى تسهم معها في دوائر التجارة العالمية، ولذلك فإن سياسة تخفيض العملة في الأمد الطويل ستلحق أضراراً بجميع الدول حتى الدول المخفضة لعملتها، وهذا في جملته يؤدي إلى خفض سعر السلع المصدرة إلى درجة لا تحقق الربح المستهدف، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض في الطلب على صادرات الدولة التي خفضت عملتها، بمعنى أن الاستمرار في زيادة الطلب على الصادرات لدولة ما يقتضي الاستمرار في ارتفاع معدلات النمو في الدول الأخرى، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل سياسة خفض العملات، والأمر الأخطر هو أن تراجع مستويات الطلب الكلي للدول المستوردة سيغري هذه الدول على تبني سياسة التخفيض، وهو ما يتمخض عنه ــ في المستقبل ــ توسيع دائرة حرب العملات بين الدول، وعندئذ تتسع دائرة الإضرار في مجمل محطات التجارة البينية حتى ينتشر الكساد محل الرواج في كل أوصال الاقتصاد الدولي. ونستطيع القول إن الدول إذا استمرت في سباق خفض العملات، فإنها ستصل إلى هذه المرحلة، مرحلة انخفاض النمو وانخفاض الطلب على السلع والخدمات بين الدول الواقعة في دوائر تجارية متقاربة، وإذا لم تدرك الدول خطورة حرب العملات، فإنها سوف تمر بنفس تجربة الثلاثينيات عندما اندلعت حرب العملات بين الدول الصناعية في محاولة منها الخروج من الكساد الذي ضرب فيما بعد جميع أوصال التجارة الدولية وألحق أضراراً بالغة بالاقتصاد الدولي، ودخلت كل دول العالم ــ طائعة مختارة ــ في فلك ما ُيعرف باسم الكساد الكبير. ولعل القارئ يتساءل: كيف عولجت حرب العملات حينما اندلعت في الثلاثينيات؟ لقد عولجت حرب العملات في الثلاثينيات بإصلاح النظام النقدي العالمي عن طريق إنشاء صندوق النقد الدولي الذي أعطي صلاحيات واسعة للتدخل في الشؤون الاقتصادية والمالية لكل دول العالم، ولذلك نحن نأمل من مجموعة العشرين أن تضع روشتة إصلاح نقدي على غرار صندوق النقد الدولي أو تفعيل آليات الصندوق القائم لكي يكون أكثر فعالية في تنفيذ روشتات الإصلاح. وبالنسبة لآثار حرب العملات في اقتصادات دول الخليج، فإن ارتباط عملات دول الخليج بالدولار يجعلها عند مرمى حرب العمولات ويصيبها ببعض الشظايا التي تصيب الدولار، فمثلاً في حال انخفاض الدولار يتبعه انخفاض في الريال والدينار والدرهم، ويسفر هذا عن انخفاض في تكلفة الواردات من المناطق الأخرى التي ُتقوم صادراتها بغير عملة الدولار مثل منطقة اليورو حينما يتم استيراد السلع الأوروبية، أو منطقة الين حينما يتم استيراد السلع اليابانية، وفي حال تراجع قيمة الدولار بالنسبة للعملات الرئيسة الأخرى كاليورو أو الين، فإن تكلفة السلع المستوردة تزداد، وعندئذ ندخل فيما يسمى استيراد التضخم. وطبعاً يترتب على ذلك أن المنتج المحلي ترتفع أسعاره في مقابل السلع المنافسة، وسيتمكن المصدرون (خصوصاً إلى الصين) من تعزيز قدراتهم التنافسية مقارنة بالسلع الصينية وتحقيق المزيد من الأرباح وتأتي المنتجات السعودية من البتروكيماويات في المقدمة. وواضح أن انخفاض سعر صرف الدولار سيدعم ــ في الأمد القصير ــ السلع المصدرة من السعودية وستكون منافسة للسلع الأخرى، وهكذا فإن الدول التي تربط عملاتها الوطنية بالدولار ستعانى ارتفاع معدلات التضخم، كما أن حرب العملات ستقودنا إلى مزيد من التضخم. وإذا رجعنا إلى النصف الأول من العام الحالي 2010 نلاحظ أن معدلات التضخم ارتفعت بسبب سلسلة من انخفاضات الدولار، وتشهد الأسواق السعودية حالياً ارتفاعا في السيولة، وهذا الارتفاع إذا لم يقابله زيادة مماثلة في الإنتاج فإن مستويات الأسعار ومعدل التضخم سترتفع أكثر وأكثر. وفي كل الأحوال فإن حجم الطلب على الطاقة في السوق العالمية سيتأثر بالانخفاض، وبالتالي فإن أسعار النفط ستنخفض إذا استمرت حرب العملات التي ستجر خلفها أسعار النفط، وهو ما لا نرضاه ولا نتمناه.
إنشرها