Author

عار المثقفين والدرس الأفغاني

|
عندما قام الاتحاد السوفييتي بغزو أفغانستان عام 1979، بحجة دعم النظام الشيوعي ثم بابراك كارمل آنذاك، برر اليساريون وفيهم يساريو العرب هذا الغزو (وإن شذ الماويون عن الجوقة) باعتباره عملاً شرعياً ضد الاستبداد السياسي والتخلف والإمبريالية، بمعنى أنه عمل إنساني وليس قهراً لإرادة الشعب الأفغاني وتدخلاً في شؤونه. أمضى الروس عشر سنوات يواجهون الجهاد الأفغاني بمختلف تياراته ثم خرجوا تحت مطرقة الإرادة الأفغانية التي أنهكت قواهم العسكرية، ودفعتهم في سباق تسلح انتهى ليكون من مسامير نعش انهيار الإمبراطورية الحمراء. بعد رحيل الروس بفترة وجيزة جاء الغزو الأمريكي ومعه قوات حلف الأطلسي وقارب وجودهم الآن في أفغانستان المدة التي قضاها الروس فيها، وبالمثل اعتبر طائفة من الليبراليين هذا الغزو نشراً للديموقراطية، وإرساء لحقوق الإنسان، وصداً لهمجية ظلام القاعدة وطالبان، وعملاً شرعياً لإنقاذ الإنسانية من إرهابهما، ومن الدور الرهيب الذي قامت به القاعدة في هجومها الشنيع وتدميرها لمبنى مركز التجارة العالمي، وإزهاق أرواح آلاف الأبرياء في نيويورك في 11 من أيلول (سبتمبر) 2001، غير أن الأمريكيين ومعهم حلف الأطلسي ما زالوا يتكبدون خسائر جهنمية بفعل جحافل أفغان شرسين في منازلة من يطأ أرضهم، سواء كان هؤلاء طالبان أو بسالة الإرادة الأفغانية هي من يكبد الخسائر، ويجعل النصر وفرض الأمر الواقع مستحيلاً .. أليس المشهد والحكاية ذاتهما يتكرران. إن من نافلة القول أن لا أحد يقف مع الظلام والإرهاب، غير أنه بالقدر نفسه لا يمكن للمبررات السياسية والأطماع والأيديولوجيا مهما كانت دعواها ومزاعمها أن تكون قابلة للتبرير، سواء من يسار الأمس أو من ليبرالية اليوم. يتحدث الروس اليوم بعد مرور 31 عاماً على خروجهم من أفغانستان عن التسليم بخطأ المغامرة، حتى إن كان فيهم من يحاول تحسين الصورة بأنهم لم يفعلوا ما فعله الأمريكيون والحلف الأطلسي، وبأنهم شقوا الطرق هناك، وأقاموا المدارس والمستشفيات والمرافق الأخرى، ودعموا اقتصاد أفغانستان، الأمر الذي يقابله ادعاء الأمريكيين بأنهم أرسوا نظاماً ديموقراطياً، وقضوا على عصابات القاعدة، وإذا كان الروس مبالغين في إسداء تنمية للأفغان، فالأمريكيون لا يمكنهم الزعم بوجود ديموقراطية إلا هيكل شكلي لها في العاصمة كابل محمية بالنار والحديد معزولة عن سائر البلاد، فضلاً عن تمدد طاعون الحرب منها إلى باكستان التي يعتبرها المراقبون تدير حرباً عن أمريكا بالوكالة، وأنه ما عاد بوسع أمريكا الزعم بتحقيق تقدم في الحالتين رغم تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن قواته تحقق نصراً هناك يحتاج إلى مزيد من الدعم ليصبح حقيقة!! هذه المقابلة بين غزاة الأمس، وغزاة اليوم، بين مؤيدي ذاك أو هذا، تشكل قناعة بأن إرادة الشعوب لا تقهر، كما أنها لا تخضع للمزايدة في المواقف تحت أي شعار كان، وأنها قد تضطر إلى الاصطفاف حتى خلف أبالسة وطنها ضد ملائكة الخارج، وهم بالتأكيد ليسوا ملائكة أصلاً، وبالتالي فالدرس الأفغاني يؤكد أن الانحياز للغزاة والغزو تحت أي ذريعة عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو سواها انحياز ضد الحقيقة المطلقة في أنه لا يصح إلا الصحيح، وهو أن الشعوب أولى بأمر نفسها، وأن الشعارات مهما كانت براقة تصبح أشنع وأبشع حين تمنح نفسها الحق في صياغة الشعوب على مزاجها، لأن ذلك ميكافيلية صرفة (غاية تبرر الوسيلة)، وهي ميكافيلية كثيرا ما يجنح لها العسكر والساسة، غير أن من العار أن يتورط فيها المثقفون!!
إنشرها