Author

انتبهوا أيها السادة

|
مع الانتقال من عصر الندرة إلى عصر الوفرة واجهت الأسرة الخليجية تحولات قوية وإمكانات كبيرة، أتاحت إنجازات مميزة في الصحة والتعليم والثقافة والإعلام والانفتاح والتفاعل مع العمالة الوافدة، وتغيرات في نظم العيش والعمل والزواج، كما أفرز ذلك التحول في الوقت نفسه شريحة واسعة من الشباب ربيت على التراخي في الضبط والمحاسبة وإغداق الأعطيات المادية، مع تدني درجة الرعاية الوالدية النفسية بشكل لافت؛ أدى إلى عدم استيعاب تلك الشريحة من الشباب معنى الجهد، ولم تتكون لديها الحاجة لبناء هوية نجاح مهني مستقبلي، فهي تعيش من خلال الترف في بحث دائب عن الملذات الآنية والاستهلاك المفرط، كما تعاني الفراغ الوجودي والعاطفي الذي تملؤه بالاستهلاك والاستعراض والبحث عن المتع الآنية، في حالة من عدم تمثل مفهوم الالتزام والقانون والمسؤولية، ذلك أن الأهل ـــ الذين هم عموما ممن حلت عليهم النعمة مع الطفرة النفطية ـــ تتخلى أغلبيتهم عن مسؤولية رعاية الأبناء ويتركونهم للخدم والمربيات، كما يعوضون عن قصور الرعاية والرقابة والعلاقة العاطفية الوثيقة بـ "الرشوة المادية"، وهكذا يجد الأبناء أنفسهم أمام فراغ عاطفي ورعائي مع إمكانات استهلاك كبيرة، مما يضعهم مباشرة في مختلف وضعيات الخطر الخلقي، كالاستعراض الاستهلاكي والانحرافات الأخلاقية ومخاطر الإدمان، ويشكلون بذلك فئة "انحرافات الوفرة"، وهي الفئة الأكثر إقبالا على مغريات العولمة وتعيش مرحلة طفولة ممتدة ترضع فيها من متع الحياة من دون تحمل مسؤولياتها. ويتعارف جميع المعنيين بقضايا الشباب على أن مجتمعاتنا الخليجية هي مجتمعات فتية تشكل فيها شريحة الشباب الحجم الأكبر من الهرم السكاني، وبالتالي فأسلوب التعامل معها سواء من الرعاية والتنشئة هو الذي سيحدد مستقبل هذه المجتمعات، وهم الكتلة الحرجة التي تحمل أهم فرص نماء المجتمع، ولذلك فإن توفير فرص إعدادهم للمستقبل وتحمل أعباء قيادته يتطلب أعلى درجات العناية، مما يفرض مهمة ملحة يجب أن يحدث فيها تحول فعلي على مستوى الأسرة الخليجية؛ وهي بناء ثقافة الإنجاز والإتقان، وذلك هو الاقتدار المهني الذي يوفر الضمانة الحقيقية لخوض غمار التنافس المتزايد مع العمالة الوافدة بكفاءاتها العالية وتكلفتها الزهيدة، وإلا فإن هذه العمالة ستجتاح الخليج في وقت ليس ببعيد بشكل لا يترك مجالا لجيل الشباب، وإن رغد العيش يجب أن يتوازن لدى هؤلاء الشباب المترف مع الإنجاز والإنتاج، وهو ما يملي تحولا ملحا في نمط حياة الأسرة الخليجية، ولم تكن مهام التنشئة الأسرية للأبناء أخطر وأكثر تحديا مما عليه الآن، ولا بديل عن الأسرة في الاضطلاع بهذه المهام والتأسيس لبناء اقتدار الشباب.
إنشرها