Author

التمَلُّق آفة اجتماعية حاربها الإسلام (2 من 2)

|
التمَلُّق قديم قدم البشرية، وموجود في كل المجتمعات على مرّ العصور، يثور حيناً ويخمد حيناً آخر، ولعله ثار في عصر ابن خلدون، الذي تبنى هذه الآفة، كما جاء في المقال السابق، فأعلن أن التَّمَلُّق أساس للحياة السعيدة، والأداة الفضلى لتحصيل الجاه والمال! وأحسب أن هذا الإعلان، من عالم مشهور، ومفكر ودبلوماسي، كابن خلدون، وفي أهم كتبه: "المقدمة"، قد شكل، مساهمة متقدمة في تخطي التَّمَلُّق الفردي إلى التَّمَلُّق الجمعي، وبالتالي، مزيداً من إضاعة الحق وانهزام العدل، ومزيداً من الانسحاب للأخلاق الحميدة، والفطر السوية، ومزيداً من النفاق الاجتماعي. لا بل، قد نجد، في بعض الحالات، أن المُتَمَلِّق أخطر على المجتمع من المنافق، خاصة حين يقتصر ضرر المنافق على نفسه، فلا يُظهر نفاقه بشكل جليّ، فيبقى على المستوى الفردي، أما المُتَمَلِّق فسلوكه انتهازي ظاهر، ويتقبل الإهانة، ويضرب بكلامه على الوتر الذي يرضي المُتَمَلَّق له، في محاولة، غالباً ما تكون مفضوحة، لإخفاء الحقيقة وتغليفها بغلاف زائف، فيتعدى بذلك ضرره إلى المجتمع ككل. أما المجاملة والمديح والتودّد، فهي صفات مطلوبة بين الناس للتحبّب والاستئناس، فإن تخطت حدود الفطرة، اختلفت حينئذٍ النوايا والمقاصد، فتؤدي إلى عكس ما يجب أن تعطيه من نتائج، إذ تنقلب إلى كذب وافتراء، فتصبح حينئذٍ من عناصر التَمَلُّق، يتعذّر معها التعبير عن الآراء الصريحة التي تخدم السلوك الاجتماعي السوي، وتؤدي إلى تذبذب في الأحكام والمواقف بين الواجب والمصلحة، والحق والهوى! وهناك رأي يقول: إن قليلاً من التَمَلُّق يصلح الحياة .. فوجدتها على وزن: "قليل من الخمر يفرح الفؤاد"! والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام" (البخاري). إن التَمَلُّق داء ليس له دواء سوى فضح المتصفين به، وإحباط مكرهم، ولا يقوم بهذه المهمة إلا من اتصف بصفات مضادة لصفات المُتَمَلِّق، كالصراحة، والجرأة في قول الحق، والاستعلاء عن الدنايا من الأخلاق الوصولية النفعية الآنية .. وللعلماء والدعاة، والقادة والسياسيين، والمفكرين، دورٌ كبير في الحد من هذه الآفة التي استشرت، ورسخت في كل زاوية من زوايا القرية الكونية. كل ما جاء بعاليه، نستشعره في الإسلام الذي حارب التمَلُّق، كما حارب النفاق، وجعل المسلم أكرم عند الله من أن يوصف بالمُتَمَلِّق، وقد جاء في "لسان العرب": "ليس من خُلُق المؤمن المَلَق"، وإن صحّ هذا الحديث أو لم يصح، يبقى التَمَلُّق جله لفظاً، والله – سبحانه وتعالى - يقول: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» ، ويقول – سبحانه وتعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ» ، وقال - صلى الله عليه وسلم: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان (تذل له وتخضع)، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك" (الترمذي). فللسان، كأداة للتملق، شأن عظيم في استقامة إيمان المسلم، ولا تتحقق استقامة اللسان إلا باستقامة القلب، قال – صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب" (البخاري)، وأيضاً، القلب لا يستقيم إلا باستقامة اللسان، قال - صلى الله عليه وسلم: "لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُهُ، ولا يستقيمُ قلبهُ حتى يستقيمَ لسانُهُ"(أحمد)، إذاً، هناك علاقة وثيقة ومتبادلة بين اللسان والقلب، والدليل على ذلك أن من أراد أن يستدل على ما في القلوب، استدل عليه بما يلفظ اللسان .. فالقلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغرفها (ابن قيم الجوزية)، وبما أن المُتَمَلِّق يسعى لإرضاء هذا أو ذاك من الناس، بالكلام المعسول الكاذب، ووصفهم بما هم ليسوا أهلاً له، فهو إنما يرضي الناس بسخط الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:"من أرضى الناس بسخط الله وَكَلَهُ الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس" (الترمذي).
إنشرها