Author

المتدين وإشكالية العمل الصالح (7 من 10)

|
يعتقد كثير من الناس أن الإنسان المتدين هو بالنتيجة إنسان صالح, فالتدين والصلاح هما وجهان لإنسان واحد. قد لا تكون هناك مشكلة من هذا التداخل بين التدين والصلاح إذا ما افترضنا أننا فعلا أخذنا بالمفهوم الصحيح للتدين, أما إذا كان التدين في الأصل مشوها ولا ينسجم مع القيم والمثل التي يدعو إليها الدين, فإن الخلط بين هذا التدين المشوه, ومفهوم الصلاح ينتج لنا إنسانا لا هو بالإنسان المتدين ولا هو بالإنسان الصالح, بل إن مثل هذا الإنسان المتدين غير الصالح هو أقرب إلى أن يضر المجتمع لا أن يخدمه وينفعه. فالمتدين إذا لم يرتق به تدينه ليجعل منه إنسانا صالحا هو بالتأكيد سيخرج به هذا التدين ربما حتى من دائرة الدين نفسه. المجتمع باعتباره تجمعا بشريا لا تنتظم أموره إلا باحترام الحقوق وبتوازن المصالح والعمل بالتكامل والتعاون لسد حاجات المجتمع, فهو في حاجة إلى الإنسان الصالح أكثر مما هو في حاجة إلى الإنسان المتدين فقط. نحن أمام إشكالية تنبع أهميتها من أن التدين في صورته الحالية لا ينتج لنا أناسا صالحين, والمجتمع الذي يفتقر إلى الناس الصالحين هو مجتمع غير صالح وإن كثر عنده عدد المتدينين وإن كان يتسم بالمظاهر الدينية على تنوعها. والمجتمع الصالح وإن لم يكن متدينا هو أقدر على النهوض بنفسه وتأمين حاجاته وانتزاع احترام الآخرين له. السؤال الذي يتردد منذ عدة قرون: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ سؤال ما زلنا نردده وقد يبقى بلا جواب لقرون قادمة لأننا ما زلنا نصر على أن الرجل الصالح هو الإنسان المتدين فقط, هذا الفهم الخاطئ لمفهوم الصلاح جعلنا أفقر شعوب العالم في تعداد الناس الصالحين, بل صرنا لا نطيق وجودهم بيننا على قلتهم فصاروا يهربون منا إلى مجتمعات أخرى تستقبلهم وترحب بهم ليزدادوا تقدما ونزداد نحن تأخرا. تأخر المجتمعات الإسلامية سببه أنها اهتمت بالحجر وأهملت البشر, وهكذا معادلة يغيب فيها الإنسان الصالح لا تنتج تنمية حقيقة. وقبل أن ندخل في مناقشة الأوجه المتعددة لهذه الإشكالية علينا أولا أن نحدد ونعرف ما هو العمل الصالح, وفي ضوء هذا التعريف نشخص الصفات والسمات المطلوبة ليكون عندنا إنسان متدين وصالح, فالعمل الصالح هو كل عمل يقوم به الإنسان فيه منفعة ومصلحة للآخرين, ويكون العمل أصلح من غيره عندما تتحقق فيه منفعة أكبر ومصلحة أعظم. فميزان الأعمال الصالحة هو ما تحويه تلك الأعمال من منفعة للآخرين, وبما أن القيام بأعمال كهذه فيها منفعة الآخرين هي الأهم، فإنها تتطلب حظا أدنى من الأنانية والتمحور حول الذات, وكذلك فإن من أهم الوظائف المرجوة من العبادات هي تهيئة النفوس للرضا والقبول بهذه الأعمال, لا بل إن العبادات في مقاصدها الكلية تريد بالإنسان أن يكون مظهرا من مظاهر العناية الإلهية بالآخرين. الإنسان المتدين الصالح يتفانى في خدمة الآخرين, وهو رحيم بهم, ويعلم أنه كلما انغمس في الأعمال التي تعود بالنفع على الآخرين ازداد عبادة لله وازداد قربا منه, فهو يتنقل بمحراب صلاته، حيث تكون هناك خدمة ومنفعة للناس, ويعلم أن القيام بعمل حتى ولو كان فيه القليل من المنفعة للآخرين لهو أفضل عند الله من الكثير من قيامه وصيامه, فلا خير في تدين لا يستطيع أن يوسع من دائرة الصلاح في نفس الإنسان. الرجل العابد ليس بالضرورة أن يكون رجلا صالحا, بل إن الصلاح هو اختبار لحقيقة تعبد الإنسان, فإما أن يكون تعبدا صحيحا قد ارتقى بالإنسان إلى الصلاح، وإما أن يكون تعبدا شكليا لا يلامس المحتوى الداخلي للإنسان, إن لم يكن تدينا قد شوه وعبث بهذا الداخل، وجعل منه إنسانا أبعد من أن يكون قادرا على القيام بالأعمال الصالحة. في إطار هذا التعريف للعمل الصالح نستطيع أن نقيس صلاح ما نقوم به من أعمال, وعلى أساس هذا التعريف نعرف من هو الرجل الصالح، ومن هو الرجل غير الصالح حتى إن كان متدينا, لأن المتدين ليس بالضرورة أن يكون رجلا صالحا، وإن كان التدين الصحيح لا بد أن ينتهي بصاحبه إلى الصلاح. مشكلتنا مع المتدين أنه يريد أن نسلم بصلاحه حتى إن كان هو ليس بالإنسان الصالح ويريدنا أيضا, وهذه المشكلة الكبرى, أن ننفي صفة الصلاح عن الآخرين لمجرد أنهم غير متدينين, فلا يمكن أن نسمي ذلك الطبيب الذي يجتهد في مجال عمله، ويقدم ما يستطيع وبإخلاص لتخفيف آلام الناس بأنه إنسان صالح، إلا إذا أظهر لنا من المظاهر والأشكال ما يوحي لنا بأنه متدين, وفي المقابل نجد أن من السهولة والقبول أن ينادى على إنسان بالرجل الصالح لمجرد أنه يؤم الناس في الصلاة, بل حتى من يمارس الشعوذة والسحر قد يجد نفسه في المجتمع على أنه رجل صالح بل أكثر صلاحا من الإنسان العالم والمهندس والطبيب. وفي إطار هذه الرؤية العامة للعمل الصالح, نناقش وبإيجاز ثلاثة أوجه لإشكالية التدين مع مسألة العمل الصالح وهي: 1- الخلط بين العبادات والأعمال الصالحة: صحيح أن الإنسان خلق في الأساس ليعبد الله, ''وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون'', ومن أجل أن يحقق الإنسان عبوديته لله ــ سبحانه وتعالى ــ عليه أولا أن يظهر استسلامه وخضوعه لله ــ سبحانه وتعالى ــ وهذه هي وظيفة العبادات, فبالعبادات يعبد الإنسان نفسه وغرائزه وجوارحه لتستسلم وتخضع لله ــ سبحانه وتعالى ــ فكل عبادة من العبادات هي مظهر من مظاهر الخشوع والاستسلام لله ــ سبحانه وتعالى. لكن هناك مكون آخر للعبادة, وهو العمل الصالح، والمعنى التعبدي للعمل الصالح هو التعبير عن مدى قيام الإنسان بدوره في خلافة الله على هذه الأرض, فالإنسان لا يحقق هذه الخلافة إلا بالعمل الصالح. الإشكالية الواقعة عند المتدينين هي أنهم يخلطون بين العبادات والأعمال الصالحة, فقد يعتقد البعض أن كثرة الصلاة وغيرها من العبادات ممارسة واستزادة من الأعمال الصالحة, بل إن القيام بالأعمال التي تخدم الناس وتنفعهم قد ينظر لها على أنها أعمال جيدة, لكنها ليست هي من الأعمال الصالحة كالعبادات التي يجب على الإنسان المتدين أن ينشغل بها. 2- ذم الدنيا والحط من قيمتها: الدنيا هي محل الأعمال الصالحة, والإنسان المؤمن كلف بإعمار هذه الدنيا، وجعل عمله هذا هو العمل الصالح, فبمقدار ما يعمر الإنسان في هذه الدنيا يزداد صلاحا, لكن كيف للإنسان المتدين أن يتحمس لإعمار هذه الدنيا ليزداد صلاحا، وهو يمقت هذه الدنيا ويزدريها وينفر منها؟ فإشكالية التدين مع العمل الصالح تنبع من شكل علاقتنا الخاطئة مع الدنيا, فكي يكون الإنسان المتدين رجلا صالحا عليه أولا أن يصلح من علاقته مع الدنيا. الإسلام أراد أن يرشد من علاقتنا مع الدنيا لا أن يفسدها, وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه التدين في شكله الحاضر, فلن نستطيع نحن المسلمين أن نقيم حضارة ما لم نستعد أولا دنيانا التي فرطنا فيها ظنا منا أن كرهها ومقتها من الدين. 3- أولويات العمل الصالح: ليس المطلوب فقط القيام بالأعمال الصالحة, بل يجب القيام بها حسب أولويتها, فما دام الأساس في العمل الصالح هو منفعة الناس فهناك في العادة منفعة أولى من غيرها وهناك حاجة متقدمة على الحاجات الأخرى. فالإشكالية هنا هو أننا لا نعرف أولوياتنا ولا نريد أن نعرفها وإذا عرفناها لا نأخذ بها. فقد يكون ما أريد أن أقوم به من عمل صالح يلبي حاجة ثانوية أو متأخرة في سلم الأولويات، وهناك حاجات أهم منها ومطلوبة اجتماعيا, فهذه الحاجات أثقل وزنا في صلاحها من الحاجات التي أرغب فيها. ولعل أوضح مثال يلاحظه عموم الناس هو رغبة كثير من الناس في بناء مساجد في مناطق تكتظ بها، وليست هناك حاجة إليها, وفي المقابل هناك أشياء يحتاج إليها ذلك المجتمع أو تلك المنطقة، ولا يفكر فيها الناس ولا يقبلون عليها ظنا منهم أن بناء المسجد بالمطلق هو أفضل الأعمال الصالحة. فإذا لم يكن هناك وعي بأن ما يرفع من قيمة العمل الصالح هو مقدار ما فيه من منفعة للناس، فإننا سنفوت علينا بركات الأعمال الصالحة، بل ستكون هذه الأعمال الصالحة ذات المرتبة المتدنية هي السبب في تأخرنا وخرابنا لأننا ضيعنا بها على أنفسنا ما نحن فعلا في حاجة إليه. أخيرا, يمكن القول إن فهمنا الخاطئ لمفهوم العمل الصالح أفقدنا كثيرا من كرامتنا, لأنه جعلنا أكثر شعوب العالم حاجة إلى غيرها, فالمسلمون اليوم يستوردون كل شيء من غيرهم ولا ينتجون إلا القليل ما يسد حاجاتهم الضرورية, بل صار البعض يظن في قرارة نفسه أن الله سخر الآخرين لخدمة المسلمين ليتفرغوا هم لعبادة الله ــ سبحانه وتعالى ــ وهذا والله أعظم مصيبة قد ابتلينا بها.
إنشرها