Author

كيف يتنقل العرب في علاقاتهم وتحالفاتهم تبعا للمتغيرات الدولية

|
تتسارع وتائر الأحداث بخطى حثيثة، وتغير في خريطة التحالفات في المسرح الدولي بشكل غير مسبوق منذ عدة عقود. وتبدو لأول وهلة عصية على التفسير والفهم، والمشهد برمته أشبه بلوحة سيريالية، يتطلب وعي أبجدياتها قارئاً من نوع خاص. فالدب الروسي يبدو أنه أنهى رحلة سباته، وخرج من عزلته ليضع حداً لهيمنة اليانكي في خاصرته، وليمنع الكبار من اللعب في حدائقه الخلفية. ولأجل ذلك يتحالف مع الصين والهند. ولا يتردد عن التهديد باللعب في الحدائق الخلفية لخصمه، وقريبا من حصونه، في كوبا وفنزويلا وبوليفيا. والحكومة التركية، في موقف تتخذ خطوات غير معهودة في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الأولى، ابتداء من مساندة التدخل العسكري الروسي في جورجيا، إلى قيام رئيس حكومتها، رجب طيب أردوغان بزيارة تاريخية لجمهورية أرمينيا لينهي عهودا طويلة من القطيعة والكراهية. واقتراح تأسيس منتدى للتعاون يضم بلاده وروسيا وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان. وأخيرا وليس آخرا، تتعرض علاقاتها الاستراتيجية مع الكيان العبري، لاهتزاز كبير، خاصة بعد قيام الإسرائيليين بحصار قوافل الحرية التي اتجهت إلى غزة، والتي قتل فيها عدد من الناشطين الأتراك. وباكستان تغرق من جهة، في وحول الفيضانات التي غمرت أكثر من 5 في المائة من مساحة يابستها، وتواجه في الوقت ذاته ما يشبه الحرب الأهلية، فيما يدعى بالحرب على الإرهاب. فرق إنقاذ وتدمير تعمل في آن معا، وتسابق الزمن بالسير إلى المجهول. والرئيس الفرنسي، ساركوزي، يحاول أن يوجد لبلاده موضع قدم في تسوية الصراع العربي مع الكيان الغاصب، على الأقل كشريك بحجم أقل في عملية التسوية السلمية، التي استبعدت منها فرنسا لفترة طويلة. وليبيا التي رفعت شعار مواجهة الإمبريالية الأمريكية، تتحول إلى ''مثال يثبت أن واشنطن مستعدة لإقامة علاقات مع الدول التي تقوم بخيارات تختلف عن خياراتها السابقة'' ـــ حسب إشارة الناطق الرسمي في البيت الأبيض. والأمريكيون يتعاونون مع الحكومة الجزائرية في مجال استخراج الغاز الطبيعي. ليبهت أو ليطويه النسيان، شعار أثير من شعارات القوميين العرب رفع لأكثر من نصف قرن، هتفت به الجموع في أكثر من عاصمة عربية: ''نفط العرب للعرب''. والعراق المحتل، ما زال غارقا في فوضاه، دون أن يتمكن المتنافسون على كرسي رئاسة الحكومة من حسم الصراع فيما بينهم. والقوى الإقليمية المعادية للعراق، تعمل دون كلل على تأجيج الصراعات الطائفية، في العراق. وقرار الأمريكيين بالانسحاب العسكري من العراق، يكتنفه الغموض. فمن جهة يجري الإعلان أن عدد القوات الأمريكية حاليا فيما بين النهرين أقل من 50 ألف جندي، ومن جهة أخرى، يجرى التعاقد مع شركة بلاك ووتر السيئة الذكر لاستقدام ما هو أكبر من الأعداد المنسحبة، للعمل حراسا للمنشآت والمؤسسات الأمريكية، التي شيدت بعد الاحتلال. #2# ذلك هو جزء من فيض، وبالإمكان الذهاب بعيداً في سرد المزيد، غير أن ذلك ليس صلب الحديث، فالهدف هو لفت الأنظار إلى أن ثمة تحولات سياسية عالمية كبرى ينبغي التهيؤ لمستلزماتها، بما يخدم تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء في منطقتنا. جل ما نطمح إليه هو إعادة التأكيد على أنه في العلاقات الدولية ليست هناك صداقات دائمة، بل علاقات تحكمها المصالح، وأن النزاعات بين الحكومات والدول ليست لها علاقة بسوء الفهم لموقف الآخر، ولا بحوار أو صراع الحضارات، ولكنها محكومة بصراع الإرادات. في الحالة الروسية، شهدنا انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط إمبراطوريته في شرق أوروبا، وتفكك جمهورياته. فكان أن تقدم ''الخصم الأمريكي'' بخطى سريعة ليحل محله في أوروبا الشرقية، وفي حديقته الخلفية. وكانت فترة فوضى، ثم حقبة استرخاء، وإعادة تقييم، ثم مرحلة بناء على الصعيدين الاقتصادي والعسكري خلال حقبة بوتين، ومن ثم موقف حاسم تجاه الدفاع عن البقية الباقية من الإرث القديم وعن السيادة، والمصالح الاستراتيجية والمناطق الحيوية. وكان التصدي للرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، هو نقطة بداية الحسم في الموقف الروسي. أيدت تركيا الموقف الروسي في النزاع مع جورجيا. ووقفت موقفا عدائيا تجاه حصار الكيان الصهيوني لقطاع غزة. والمواقف هذه تمثل خروجاً على التحالف التركي مع الغرب، ومع الولايات المتحدة، بشكل خاص. لكن تركيا، انطلقت من مصلحتها الوطنية، والحرص على سلامة أمنها القومي. لقد وقفت الإدارة التركية من قبل، موقفاً مماثلاً من العدوان الأمريكي على العراق، ورفض برلمانها الترخيص للقوات البرية الأمريكية بالزحف من الأراضي التركية إلى العراق. وكان الموقف التركي واضحاً ومفهوماً، فالإدارة الأمريكية، أثناء فترة الرئيس كلينتون، من خلال فرضها مناطق الحظر الجوي في الشمال والجنوب قد أفصحت عن نواياها في تفتيت العراق وتقسيمه إلى دويلات ثلاث: دولة كردية في شمال العراق، وأخرى عربية سنية في الوسط، وثالثة شيعية في الجنوب. بمعنى آخر، إن وجود دولة كردية في جنوب تركيا يشكل إسفينا في الخاصرة التركية، ويشجع النزعات الانفصالية الكردية التي يقودها حزب العمال الكردي، وهو ما لن تقبل به أبداً أية حكومة تركية تضع نصب عينيها مصلحة شعبها وأمنها القومي. إن القبول بوجود جورجيا معادية في خاصرة روسيا، هو موقف مماثل للقبول بدولة كردية جنوب تركيا. إن الوعي التركي بحالة التماثل هذه هو الذي يفسر لنا موقف حكومتها الحاسم والصريح إلى جانب روسيا في نزاعها مع جورجيا، وهو موقف يأتي في سياق تاريخي وموضوعي صحيح. إن إعادة تركيب اللوحة الجيوسياسية لمنطقة القوقاز بأسرها استدعت تغيير خريطة التحالفات التركية، وهي بالتأكيد التي أوحت بالمصالحة التركية مع جمهورية أرمينيا. وربما كان موقف الكونجرس الأمريكي من تأييد تقسيم العراق، والقبول بمشروع نائب الرئيس الأمريكي، بايدن، في هذا الموضوع هو أحد العناصر، التي حرضت تركيا على اتخاذ موقف مناوئ لإسرائيل، الحليف الاستراتيجي للأمريكيين. ولأن تركيا في الحسابات الأمريكية لا يمكن تجاهلها، كونها مع إيران وباكستان تمثل القوس الملتف حول العنق السفلي لروسيا الاتحادية، فإننا نجد من جهة، حرصاً أمريكياً على ألا تتأثر علاقاتها بتركيا. وتبقى أهم العبر من هذه المتغيرات، أن يتعلم العرب، كيف يتنقلوا في علاقاتهم وتحالفاتهم، تبعا للمتغيرات التي تجري من حولهم، وبما يخدم أهدافهم الرئيسة في الأمن والسلم، وتحقيق التنمية، وبما يجعلنا نعيش في القلب من العصر الذي نعيش فيه وليس بعيدا عنه، أو على هوامشه.
إنشرها