Author

التقدم التقني .. بين مناهج البناء و مناهج الترميم (2)

|
خلصنا في المقال الأول إلى أن هناك خللا في تركيبة مناهجنا، وفي الخطط الزمنية لتوزيع تلك المناهج عموماً، كما أن هناك خللا في القدرة على تدريس تلك المناهج، وهذا بلا شك من أهم الأسباب لأن نكون غير قادرين على البناء التقني ـ الابتكار والتصنيع والإنتاج ـ وبالكاد نستطيع صيانة وترميم ما نستورده من منتجات تقنية من الخارج! أو نقوم بتجميعها، وكان لنا سؤالان: أين مكمن الخلل في تلك المناهج؟ ولماذا لا تتجاوز قدراتنا عموماً حالة الصيانة والترميم إلى الابتكار والبناء؟ وقد أكدت أن الإجابة الأفضل لهذين السؤالين هي عبر التفكير والحوار الجماعي العميق المبني على تجربة وممارسة وتقييم وتحليل، وعلى حوار حضاري صادق يهدف لبناء الوطن ويضع المصالح والنظرات الشخصية الضيقة بعيداً، ويُغلب مصلحة الوطن ثم الوطن ثم الوطن ـ وتحت مظلة الوطن ينعم الجميع ويسعد ـ كما أكدت من خلال تأمل واقع الدول المتقدمة صناعياً أن المحافظة على ثوابت اللغة والقيم الدينية والاجتماعية في التعليم هي داعم قوي وأصيل للتعليم عموماً، وللتقدم الحضاري خصوصاً وليست عائق له، وقبل أن أبسط دراستي البسيطة للموضوع وأناقشها، دعني أشير إلى بعض ما وصلني من تعليقات الإخوة القراء الكرام: ''أبو عبد الرحمن الشافعي'' يرى أن الخلل يكمن في تقصير الوزارة ـ وأظنه يقصد وزارة التربية والتعليم ـ في الاستفادة من المستشارين في كليات التربية لوضع مناهج قادرة على النهوض بالأمة، مع آلية لصيانة تلك المناهج وتطويرها بشكل دوري بما يتناسب ومتطلبات الزمان. ومن جهة أخرى، يرى ''محمد'' أن القضية المراد نقاشها عميقة ومتعددة الجوانب وتحتاج إلى تنوع في الطرح ـ وأنا أتفق معك تماماً ـ ويخشى أن يكون النقاش مجرد تنظير لا أكثر، ومن جهته يرى أن المحور الأهم للمشكلة هو الضعف الشديد في تطبيق معايير صحيحة لاختيار المدرسين وأعضاء هيئات التدريس في التعليم العام وكذلك الجامعي، والتي من المهم فيها التركيز أكثر على أن يكون المرشح سويا أخلاقيا ونفسيا ومبدعا في التواصل الاجتماعي مع طلابه وقادر على التأثير إيجابياً فيهم. أما ''الدكتور عبد الرحمن باقيس'' فيرى أن مراكز الأبحاث الكبيرة ومراكز توجيه الابتكار والمبتكرين كأحد الحلول الداعمة للتطور التقني، لن تحقق رسالتها ما لم تدر برؤية ومنهجية مختلفة تماما عن إدارة المرافق الحكومية، وتتخلص من بيروقراطيتها. و يرى الأخ ''محبوب المحبوب'' عبر البريد الإلكتروني، أهمية مساندة الجهات المسؤولة عن التقنيات الحديثة مثل برنامج يسر للتعاملات الإلكترونية الحكومية، ووزارة الاتصالات وتقنية المعلومات للجامعات والمدارس، وكذلك إلزام وزارة التجارة والصناعة وهيئة الاستثمار بشكل أو بآخر، كبريات الشركات العالمية العاملة في المملكة دعم مسيرة التطوير في الجامعات والمعاهد والمدارس، عبر تعزيز تعليم التقنيات الحديثة في مناهجنا كجزء من استثماراتهم. لا بد من التوضيح أن ''التقدم التقني'' الحقيقي هو الذي يُبنى بأيد أبناء الوطن ويَبني الوطن بأيديهم، ولا شك أن تأهيل أبناء الوطن تأهيلاً حقيقياً، حيث تتجاوز قدراتهم عموماً حالة الصيانة والترميم إلى الابتكار والبناء، ينمو بشكل أساسي وجوهري في رَحِم التعليم عبر مراحله كلها ولكنه يمتد خلال مراحل ما بعد التعليم .. في بيئات العمل الحقيقي لتصقلهم وتكسبهم الخبرة والصلابة في أداء المهام بأقصى درجات الجودة الممكنة، وبشكل يبعث الرضى من نفوسهم إلى نفوس أصحاب الأعمال إلى كل المستفيدين منها. من هنا يتضح أن إجابة السؤال الثاني خصوصاً ''لماذا لا تتجاوز قدراتنا عموماً حالة الصيانة والترميم إلى الابتكار والبناء؟'' يمكن مناقشتها بشكل مختصر من خلال مقالين: الأول يتعلق ''بالخلل في مراحل التعليم''، وهو ما سيُجيب على التساؤل الأول ''أين مكمن الخلل في تلك المناهج؟''، وهو موضوع المقال القادم، والثاني يتعلق ''بالخلل في بيئات العمل''، وسيكون موضوع المقال التالي له ـ إن شاء الله ـ عن ''التقدم التقني .. ودور بيئات العمل بين التعزيز والتثبيط''. تطوير التعليم عموماً لجعله يواكب التطور العلمي والتقني الحالي والمستقبلي، يرتكز على عدة محاور وجود الخلل في أي منها يُخل بمنظومة التعليم ككل وبنتائجه، وهي: المنهج والمعلم والطالب والبيئة التعليمية، وكذلك الأنشطة التعليمية غير الصفية (ويضاف لذلك دور وتأثير الأسرة وحالة المجتمع). وهذا الموضوع بلا شك من الأهمية، حيث يشغل همّ كل المواطنين وكل المسؤولين وعلى رأسهم قائد ثورة التغيير وحامل لواء التطوير الداعم بشكل لم يسبق له نظير للتعليم وتنمية الموارد البشرية الوطنية، خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله، وهذا جلي وواضح من خلال متابعته وتوجيهاته ودعمه السخي والمنقطع النظير للتوسع في الجامعات ومراكز البحث العلمي وبرامج الابتعاث، ومن خلال مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير التعليم العام، وأخيراً من خلال اعتماده لخطة التنمية التاسعة التي تُولي النصيب الأكبر من اهتمامها في شأن تطوير الموارد البشرية ـ عبر تطوير التعليم والتدريب ومراكز البحث العلمي ـ باعتبار أن أكثر أهداف الخطة المتبقية تتأثر بذلك بشكل أو بآخر. قبل أن أختم المقال، لعل الجميع يلاحظ أن كثيراً من منسوبي التعليم العالي يلقون اللوم في ضعف مخرجات الجامعات على ضعف مخرجات التعليم العام ـ الطلاب ـ كما أن كثيراً من منسوبي التعليم العام يُبّررون هذا الضعف بالضعف في تأهيل أكثر المعلمين الذين ما هُم إلا مُخرجات للتعليم العالي .. وهكذا ندور في حلقة مفرغة! فكيف يمكن الخروج منها.. في المقال القادم نعرف ذلك ـ إن شاء الله. * تنويه: القصيدة التي ذكرتها في آخر المقال السابق عن ''اليتيم'' هي للشاعرة المبدعة تذكار الخثلان كما جاء في تعليق الأخ الكريم سالم الصقية. ودمتم بخير وسعادة.
إنشرها