Author

كفاكم تدميرا وقتلا في أفغانستان!

|
كنا نأمل أن تكون حكومة باراك أوباما أكثر واقعية وعقلانية من تلك التي كان يقودها جورج بوش الابن، تحت سيطرة المحافظين، التي كان من أهدافها قتل المسلمين وتحطيمهم أينما كانوا تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. وكانت أفغانستان، ذلك البلد الفقير والشعب المُعدَم, من ضحايا سياستهم المجرمة منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. والجميع يعلم أن الشعب الأفغاني المسالم لم يكن له يد فيها، ولم يُمارس أي نوع من الإرهاب الذي يتحدثون عنه. فلم نسمع أن أفغانياًّ واحداً اشترك في عملية إرهابية خارج بلاده ضد أمريكا، وهم الآن يمارسون شتى أنواع الإرهاب في حق شعب لم يقترف أي ذنب إلا قولهم حسبنا الله ونعم الوكيل. وبدأنا نسمع همساً بأنهم يفكرون جدياًّ في البحث عن مخرج يحفظ لهم ماء الوجه. فقد صرح رئيس وزراء حكومة بريطانيا الجديد كاميرون خلال زيارته الأخيرة إلى أفغانستان بأن القوات البريطانية، وهي من ضمن القوات الدولية التي حشرتها أمريكا معها في حرب الأفغان، قال إن جنودهم لن يظلوا طويلاً هناك، وهو تعبير واضح عن رغبة الحكومة البريطانية في الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها في لُجَّته استجابة للضغط الأمريكي على عهد حكومة توني بلير, الذي نذر نفسه لخدمة جورج بوش وطاعته في الخير والشر والسرِّ والعلنْ.  أما الولايات المتحدة، وهي رأس الحربة في أفغانستان، فلا نشك إطلاقاً في أنها بدأت تكتشف أن وجودها هناك ليس له هدف واضح, وليس بإمكانها أن تحرز, بكل ما تملك من القنابل الحارقة والصواريخ المدمرة, نصراً عسكريا على حفاة عراة لا تستطيع التفريق بينهم وبين أحجار الجبال التي يعيشون فوقها. وغلطة أوباما، أنه في بداية عهده في الرئاسة استشار ترِكة جورج بوش من العسكريين التقليديين، فأشاروا عليه بطبيعة الحال بأن يستمر في قتال الأفغان حتى إحرازهم النصر المزعوم. ولا غرابة في ذلك، فتلك مهنتهم التي يتعيشون من ورائها، القتل والدمار. ومنذ عدة أشهر جهزت القوات الأمريكية عشرات الألوف من الجنود المدججين بالسلاح مع مُعداتهم المدرعة وطائراتهم الموجهة آليا المتخصصة في قتل المدنيين العُزَّل، وشنت ما سمته هجوماً كاسحاً على معاقل حركة طالبان بقصد القضاء عليهم. ولا ندري منْ الذي أقنعهم بأنه بإمكان قواتهم إذا كثر عددهم مسح مسلحي الحركة من الوجود؟ والمفاجأة أن محاربي الحركة فعلاً اختفوا من ساحة المعارك بعد بدء الهجوم عليهم، لكن ليس انهزاماً كما كانت تأمل القيادة الأمريكية، فقد ذابوا داخل مجتمعهم وتركوا الجيش الأمريكي تائهاً بين الجبال والوديان الخالية. وبمجرد أن عاد الجيش الأمريكي خائباً إلى قواعده، استعاد مقاتلو طالبان نشاطهم ضد القوات الأجنبية والأفغانية بوتيرة أقوى، وكأن شيئاً لم يحدث، فهم بطبيعة الحال أطول نفساً من القوات الغازية. والغريب أن أحد جنرالات الجيش الأمريكي في أفغانستان كتب منذ أيام مقالاً في إحدى المجلات ينتقد فيه سياسة حكومته حينما لم تُلب طلبه بإرسال مزيد من الجنود، لأنهم أدركوا أن الخروج من بلاد الأفغان أفضل لهم من التوسع العسكري والاستمرار في خوض حرب خاسرة. وتقول الأخبار إن القيادة في واشنطن استدعت الجنرال للتحقيق معه حول ما تطرق إليه علناً من أمور ذات حساسية دون تفويض من المسؤولين. و قد أُعلن أخيرا أن الرجل أعفِي فعلاً من منصبه، نظراً لاختلاف وجهة نظره حول الخطة العسكرية هناك عن رؤية رئيس الحكومة باراك أوباما، الذي بدأ يدرك عدم جدوى الاستمرار في شن حرب كرٍّ وفرٍّ ضد مُسلحي حركة طالبان المتمرسة في حرب العصابات، إضافة إلى أن أغلب الشعب الأمريكي لا يؤيد تلك الحرب الخاسرة التي تُكلفه مليارات الدولارات سنويا وتُزهق أرواح المئات من شبابه. والمحزن، أن الحكومة الأفغانية الموالية للغرب حاولت التوسط لإبقاء الجنرال المفصول الذي كان يدعو إلى جلب قوات أمريكية إضافية إلى أفغانستان، وهو ما يعني مزيدا من القتل والدمار، بدلاً من المصالحة والحل السلمي مع إخوانهم الجنوبيين.  والمرء يحار من سكوت دول العالم أجمع في هذا الزمن المظلم وتقبُّلها قيام دولة أو دول عظمى بشن حرب مدمرة على شعب فقير دون أن يكون لهم موقف معارض! ونحن نعلم أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن أصبحا لُعبة في أيدي الأمريكان ومنْ هم في فلكهم، ونقول السلام على الدور البنَّاء للأمين العام الذي كان خلال سنوات الخمسينيات والستينيات الميلادية من القرن الماضي يصول ويجول في الميادين الدولية، وله سمعته واحترامه بين جميع الدول، قويها وضعيفها. أما في السنوات المتأخرة، فلا نكاد نشاهد نشاطا ذات أهمية للأمم المتحدة وأمينها إلا في حدود مجال إغاثة اللاجئين فحسب والمناسبات الاحتفالية. فقد أصبح ترشيح الأمين العام وتعيينه من شأن الحكومة الأمريكية التي تُسيطر الآن على السياسة الدولية ولعبة في يدها، وهو ما قلل من قيمة هذه المؤسسة العريقة التي كانت مبادئها مبنية على العدل والمساواة وحفظ السلام ودحر الظلم والاستبداد من أي طرف، وهو ما لا وجود له اليوم.  وأخيراً طلعت علينا أمريكا بما تسميها أخباراً سارَّة للشعب الأفغاني، فقد اكتشف المهندسون والجيولوجيون أن جبال أفغانستان تحتوي على ثروات معدنية هائلة تصل قيمتها إلى التريليونات من الدولارات، أعلنوها وكأنها مبالغ جاهزة للصرف. والله - سبحانه - أعلم إن كانت هذه نعمة للأفغان أم أن عملية استخراجها ستكون نقمة على بيئتهم الطبيعية وعلى خصوصية مجتمعهم. فإذا فرضنا أن هناك فعلاً وجودا لثروة معدنية كبيرة تحت تلك الجبال الشاهقة، كما يدعي الأمريكان، فإن إنتاجها يحتاج إلى رساميل طائلة وتقنية حديثة وعمالة ماهرة، وكلها غير متوافرة لدى أصحاب الأرض. وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى دعوة الشركات المتخصصة في صناعة التعدين للاستثمار في استخراج المعادن، وهو ما يعنى عملياًّ غزو بلاد الأفغان بعشرات الألوف من العمال والفنيين الأجانب مع معداتهم الثقيلة التي ستقلب أرضهم رأساً على عقِب وتُدمِّر الطبيعة العذراء، وليس من المحتمل أن تعمد تلك الشركات بعد الانتهاء من أعمالها إلى إعادة طبيعة الأرض إلى ما كانت عليه قبل الحرث والنبش والتخريب، بل إنها ستترك بقايا معداتها الخربة منتشرة ومبعثرة فوق التربة الملوثة. لكن استقدام الشركات يتطلب أيضا استقراراً سياسياًّ، والاستقرار السياسي يتطلب خروج القوات الأجنبية من أفغانستان. وإذا خرجت القوات الغازية فلمنْ سيكون الأمر، هل لحكومة كارازاي المُهلهلة أم لحركة طالبان التي حتماً لن تقبل باحتلال جديد من نوع آخر؟ ولعله من المناسب أن نذكر هنا أن عملية استخراج المعادن الخام الصلبة من باطن الأرض مُكلفة ومردودها ضئيل، وفي الغالب تتطلب وجود كميات كبيرة من المياه التي ربما لا تكون متوافرة في صحاري أفغانستان.  أما الاختيار الأكثر صعوبة والأخطر بالنسبة لمستقبل أفغانستان، فهو أن تحاول بعض الدول المتورطة في الحرب في أفغانستان فرض نفسها وسيطرتها على الواقع هناك وتتعامل مع أي حكومة عميلة تسمح لها باستغلال المعادن الثمينة تحت حراسة مشددة، وهو ما سيعد امتداداً للحرب الحالية والاحتلال الأجنبي، وسيقود حتماً إلى استمرار عمليات المقاومة من جانب الفئات المعارضة هناك. عزيزي القارئ، إذا وجدت أن قراءة المقال ثقيلة ومملة، فما عليك إلا أن تُلقي نظرة سريعة على الكاريكاتير المنشور في صحيفة "الوطن" يوم الإثنين الموافق 23 من شهر رجب 1431، تحت عنوان "أفغانستان" صفحة 23 فهو يُعبر أحسن تعبير عما أردت أن أوصله إليك.
إنشرها