Author

جماعة سابقاً

|
ليس العنوان أعلاه لمدرسة فكرية أو فلسفية أو أدبية أو تشكيلية وليس مصطلحاً أثروبولوجياً ولا سيكيولوجياً، وإن كان وثيق الصلة بهما من حيث تطور الوعي والنضج وتقدير الذات، غير أنه يمثل حالة ظننت أنها انقرضت، وأنها أصلاً ليست مما عُرف به أبناء هذه البلاد. حيث استرعت انتباهي كثيراً، قبل أكثر من عشرين عاماً، كلمة ''سابقا'' حين كنت أشرف على القسم الثقافي في الزميلة ''الرياض''، وكان البريد يبعث إلينا برزم من الأوراق لكُتّاب من مصر والشام وغيرهما ما سمعنا بهم ولا قرأنا لهم نتاجا غير هذا الذي دفعوه بين أيدينا. كان اللافت في معظم تلك الرسائل حرص كاتبها الشديد على أن يسرد سجل عضوياته في الأندية الأدبية والثقافية ومشاركاته في المؤتمرات والندوات ونشاطاته وأعماله في كل الجهات التي مر بها .. وكان يذهلني هذا الحشد من الإشارات في السجل الذي أمامي لكن ذهولي ما يلبث أن يخف بسبب وجود كلمة ''سابقاً'' بعد الإشارة إلى العضوية أو جهة العمل، ثم ما إن أقرأ في أوراق ''جماعة سابقاً'' حتى ينتابني الذهول مرة أخرى لأن كل تلك ''الزبرقة'' و''الزركشة'' أو تلك الزفة لم تفلح في إخفاء هزال المقالات والقصص والقصائد وتطيح بالمزاعم. كنت أحسب أن ''سابقا'' هذه قد باتت نسياً منسيا، فقد توارت ولم أعد ألحظها سنوات، إلا لمن يترجم لهم من مشاهير العالم لتنشر بالعربية في هذه الصحيفة أو تلك كرؤساء الدول السابقين وغيرهم من المفكرين والساسة. لكن ''سابقاً'' عادت لتطل برأسها في صحفنا من جديد بحرص شديد لا ينافسها فيه إلا الحرص على إبراز حرف (الدال) ولو بلا مدلول!! يحدث أن: بالواسطة أو بـ ''الماصطة!!''، بالقرعة أو بالفزعة بالصدفة أو بالزفة، وطبعاً يحدث بالكفاءة والاستحقاق أيضا أن يعمل أو ينتسب أو يصبح هذا الشخص أو ذاك عضواً أو مسؤولاً في جهة مرموقة، محلية أو إقليمية أو دولية خاصة أو عامة، ثم تدهمه رغبة الكتابة وإبداء رأيه في شأن عام أو قضية تشغل باله، وهذا حقه، لكن ما شأن ذلك الحق بالإصرار على ''لصق'' كلمة ''سابقاً'' وراء عضوية بعينها أو جهة بذاتها؟ ألا ترونها باتت تتبختر كثيراً في سنواتنا الأخيرة عبارة ''عضو سابق في مجلس الشورى'' أو ''مستشار سابق في ...'' أو ''خبير سابق في ...''؟ ''أو رئيس مجلس كذا سابقاً'' أو مدير عام شركة .. سابقاً'' ... إلخ وأجزم بأن بعض أولئك كانوا فعلاً يزينون بوجودهم تلك المواقع التي كانوا ينتسبون إليها ويشرفونها وأن الإشارة إليهم بهذه ''السابق'' غالباً هي مجرد اجتهاد إعلامي من الصحيفة نفسها تم استغلاله والتسلق على أكتافه من قبل ''رهط'' يبحث عن الوجاهة ولو من باب كونه كان هنا أو هناك سابقاً!! إن الكتابة في وجه من وجوهها عمل فضائحي لا تستر عورة خلل منهجيتنا في التفكير ولا تداري القصور في وعينا أو العطب في رؤيتنا أو هشاشة مرجعيتنا المعرفية التي نصدر عنها، وفرق كبير بين من يكتبون عن معرفة وتخصص ودراية فتمنحهم الصحيفة لجدارتهم تلك الإشارة وبين من يكتبون بفوقية وبأسلوب وعظي ومحتوى يناقض محتوى مقالته السابقة. ثم يحشر تحت اسمه هذه الـ ''سابق''! إنه لمن المؤسف حقا أن تتحول الكتابة إلى ''بريستيج'' وإطار ''نرجسي'' فيما هي معاناة وهم وقلق وموقف ومسؤولية كما هي في الوقت نفسه فضاء إبداعي جمالي. حالة هؤلاء السابقين الجدد لا تبعد عن حال جماعة سابقاً الذين بدأنا بهم المقال فالعمل في جهة مرموقة قد يكون جواز مرور لأي ''بريستيج'' يحس صاحبه أن قيمته أو مكانته لا تتحد ولا تكون إلا بالتنويه به على رؤوس الأشهاد، لكنه بكل تأكيد، ليس شهادة امتياز على أن صاحب هذه الـ ''سابق'' أصبح كاتباً لا يشق له غبار ما لم يثبت ذلك وإلا فالأمر أشبه برسائل الدكتوراه المزيفة!!
إنشرها