Author

مديرون لا يصنعون القرارات

|
مبررات نسمعها من حين إلى آخر من قبل مديرين لإدارات حول عدم مقدرتهم حل مشكلة مزمنة تتكرر بشكل بغيض داخل إداراتهم وتؤثر في أدائهم سلبا وتربك إنتاجيتهم. وعند المناقشة لإيجاد الحل وبعد الاعتراف بوجود المشكلة، نجد أنفسنا ندور حول دائرة مفرغة، فالحل حسبما يعتقد هذا المدير أو ذاك خارج نطاق صلاحيته، وأن القرار ليس بيده، وتستمر المشكلة.  ظاهريا قد يكون هذا التبرير صحيحا، ولكن السؤال هو ما العمل في هذه الحالة؟ وهل تستمر المشكلة دون أن نجد لها حلا؟ سيجاوب الكثيرون أن الحل هو في رفع المسألة إلى صاحب الصلاحية لاتخاذ القرار، وبهذا ينتهي دور المدير ويكون قد عمل الواجب المترتب عليه. ولكن قد يقول قائل إن هذا التصرف من قبل المدير ما هو إلا تهرب من المسؤولية أو على أقل تقدير عدم المساهمة بفاعلية في حل المشكلة. لتحليل تصرف المدير يجب علينا أن نعلم أن الدراسات العلمية تشير إلى أن القرار ينقسم إلى قسمين من حيث الآلية، فهناك قرار يصنع وهناك قرار يتخذ والفرق بينهما كبير. ولتقريب الصورة وتوضيح الفرق، اتخاذ القرار يكون على الأغلب مبنيا على الحدس أو الغريزة أو المنظور الشخصي مدعوما بالتجارب السابقة، وغالبا لا يحتاج إلى وقت طويل لإصداره مقارنة بـ "صناعة القرار". أما شأن صناعة القرار فهو مبني على منهجية وآلية تحتوي على دراسة ومشورة وتجميع للمعطيات ودراسة للتبعات، كما أنه يتطلب وقتا أطول مما يطلبه "اتخاذ القرار"، وقد يحتوي على مجموعة من الإجراءات التي تسبق إصدار القرار، وربما يحتاج إلى إجراء بعض العمليات الحسابية والتقييمات الموضوعية للوصول إلى أفضل قرار. صناعة القرار واتخاذ القرار لا بد لهما أن يمارسا بالشكل الصحيح، فلكل منهما مَواطن للاستخدام، وعند تعدي أحدهما على مَواطن الآخر تنتج لدينا الكثير من المشكلات التي توصف في العادة بسوء الإدارة أو سوء اتخاذ القرار. مثال لتقريب صورة حالة التعدي هي كما يلي: أخبرني أحد عمداء الكليات أنه عند توليه عمادة الكلية قام باتخاذ قرار يقضي بفتح باب الابتعاث للمنسوبين إلى الكلية واستمر الأمر على هذا النحو طوال فترة عمادته للكلية، ولكن بعد أن تولى العمادة شخص آخر اتخذ قرارا بإلغاء الابتعاث إلا في حدود واشتراطات معينة، وعند السؤال عن آلية اتخاذ القرار، فأجاب "أن المسألة وجهة نظر واجتهادات شخصية لعميد الكلية وأعضاء مجلس الكلية". التحليل: في المثال المذكور نجد أن القرار لم يصنع وإنما اتخذ، وإن كان ضمن آليته كانت هناك اجتماعات ونقاشات حوله، ولكن لم يستند القرار إلى مؤثرات محددة تدعم القرار بموضوعية بعيدا عن الرؤى والاجتهادات الشخصية. بناء وتحديد مؤثرات القرار ليس بالأمر السهل ولا يطبق على جميع أنواع القرارات وإنما يطبق على القرارات التي لها سمة التكرار، وبالتالي نحن نحضر للقرار قبل صدوره ونحدد معايير صناعته. المثال المذكور يخص قرارا يتعين علينا البت فيه من وقت إلى آخر سواء طال الوقت أو قصر فدائما لنا عودة لإصدار مثل هذا القرار، وبالتالي يكون من الأنسب أن نصنع القرار في هذه الحالة لا أن نتخذه. هناك من المديرين من يصدر القرار ثم يحاول تبريره، وهذه نظرة معكوسة لصناعة القرارات، وبالتالي أصر صديقنا (العميد السابق) بأن يبرر قراره وقرار خلفه بأنه رؤية شخصية له ولمجلس الكلية، بينما كان المفترض أن يوضح الأسباب التي دعت إلى إصدار ذلك القرار من وحي أرقام ومستندات وظروف ومعايير دعت إلى الخروج بذلك القرار وعليه أن يؤكد أن ذلك القرار يأتي متماشيا مع استراتيجية الكلية وسياساتها، فالمسألة ليست رؤية شخصية لفرد أو مجموعة من الأفراد وإنما هي رؤية مؤسسة. هناك مَواطن لا يصح لنا أن نصنع القرار فيها وإنما علينا أن نتخذه، مثال ذلك عند الأزمات لا يكون هناك وقت للدراسة والتحليل وعندئذ علينا أن نتخذ القرار في حينه، فلو تأخر اتخاذ القرار لربما ساء الوضع واتسع الخرق على الراقع، وعندها لن تفيدنا الدراسات والتحليلات والاجتماعات والمشورات ولن يفيدنا صنع القرار. وهنا يبرز دور المدير القيادي ذي النظرة الثاقبة والخبرة (ونلاحظ هنا أننا لجأنا لشخصية متخذ القرار بشكل أكبر). المدير الذي يبرر أن صلاحيته لا تمكنه من اتخاذ القرار يخطئ إن لم يسهم بفاعلية في دعم صناعة القرار، ويكون ذلك بعدم الركون إلى رفع المسألة إلى صاحب الصلاحية وإنما بالتعرف على المعايير والمؤثرات للقرار ثم دعمها بالمستندات حتى يصبح صاحب الصلاحية على دراية كاملة بالمسألة تمكنه من صناعة القرار بشكل صحيح. يعتقد الكثير أن صاحب الصلاحية عنده معرفة دقيقة عن الإدارات المسؤول عنها، مغالطين أنفسهم بأن صاحب الصلاحية مهامه أكبر من أن يتابع التفاصيل الدقيقة لكل إدارة، وإن كان سيعمل ذلك، فما دور المدير إذن!. في بعض الحالات تكون المشكلة متراكمة بمعنى أن صاحب الصلاحية ليس لديه آلية لصناعة القرار فعندئذ يترتب على المؤسسة أن تضع آلية لصناعة القرارات وتجعلها من ضمن سياستها. وهنا يأتي دور صاحب الصلاحية مع جميع المديرين أن يؤسسوا لهذا وأن يطالبوا به. بناء هذا الأساس يعد مطلبا رئيسا للأعمال المؤسساتية ودونها يكون هناك خلل كبير في التعاطي مع العمل المؤسساتي وستبرز مشكلة "الشخصنة" في كل قرار نتخذه. القرارات ذات الطبيعة المتكررة داخل أي منظمة يجب أن تؤطر وأن تكون ممنهجة، بمعنى أن الارتجال في إصدار القرار يكون في الغالب سبب من أسباب ظهور المشكلات، سواء كانت هذه المشكلات تختص بتوابع القرار أو بمشكلات سلبية تؤثر في بيئة العمل بشكل عام. المنظمة إذا ما أرادت أن تكون مؤسسة يصنع فيها القرار بناء على معطيات وظروف مصاحبة لوقت إصدار القرار فعليها أولا أن تجمع القرارات المتكررة ثم تقوم بتشخيصها وبناء معايير واضحة المعالم توجه القرار للمسار الصحيح، هذه المعايير يجب أن تكون ذات ارتباط وثيق بعملية تقييم الموقف والتهديدات والفرص المتاحة ومفيدة في المفاضلة بين البدائل. هذه المعايير تعكس تحيزات المنظمة من الجوانب الاستراتيجية والتكتيكية وحتى الثقافية. أخيرا أكرر ما قلت في مقالات سابقة "إن المهم ليس القرار ذاته فهو عرضة للصواب، والخطأ ولكن الأهم من القرار هو كيفية صناعة القرار والآلية المتبعة لصناعة القرار". كما تجدر التنويه إلى أن معظم القرارات الإدارية هي قرارات قابلة للمتابعة والتصحيح بمعنى أنه ربما يحتاج القرار بعد صدوره إلى قرارات تابعه له مثل قرار مكمل لقرار سابق أو قرار مساند له أو قرار مضاد يلغيه، ولذلك التحيز المبالغ فيه اتجاه قرار معين قد يفقده موضوعيته.
إنشرها