Author

«كشكار» دائم، ولا «علامة» مقطوعة!!

|
من رحم البساطة تنطلق حِكَمٌ نادرة، تُلَخِصُ تجاربَ حياتية طويلة في كلمات معدودات، يعجز عقلُ التاريخ عن نسيانها، لأنها صادفت سؤالاً رابضاً في بؤرة الشعور، فقدمت عليه إجابة لطيفة خفيفة، فجعلتها الذاكرة في مرمي الالتقاط كلما دعت الضرورة إلى ذلك. من تلك الحِكَم عنوان المقال، الذي يكْتنفُ كلماته شيءٌ من الغموض، رُبما لأنه مَثَلٌ قديمٌ مضي عليه عقود، ولم يزده القِدَمُ إلا بريقاً ولمعاناً.. و«الكشكار» هو دقيق الشعير الخشن الداكن بعض الشيء، وهو ما كان مشهوراً ومتداولاً في بيئتنا إذاك، وأما «العلامة» فكانت دقيق القمح الفاخر المُتصفُ بالبياض الناصع والنعومة الشديدة، وكان هذا الصنف نادراً، لا يستهلكه إلا الوجهاء والأثرياء. والقصد أن وجود دقيق الشعير طوال العام، كان أفضل كثيراً من دقيق القمح الفاخر،الذي يسعد النفس والبطن يوماً إذا جاء، ويشقيها بقية العام غياباً، وهذا شأنه، وشأن جيوب خاوية لا تقدر عليه!. قديماً كنت ألمحُ في نفوس الناس قدرة غير عادية على التكيف مع الواقع بعذاباته وآلامه، ولم يكن ذاك التكيف عن ضعف أو استسلام، ولكن كان تعايشاً يري المنح الثمينة في باطن المَحن الكبيرة!. كنت تري الواحد فيهم ألين من الماء الجاري حين يمضي نحو أهدافه، مع امتلاكه قدرة عجيبة علي تفتيت الصخور المُعترضة بصبر وتؤدة، ولذا أتقن فن التعايش مع نوازل الدهر وتقلبات الأيام، مُحافظاً على سَمْته وطرقته في الحياة!. ولما كان الرضا بالمقسوم سمة غالبة وقتئذ، أبت القلوب المُشرئبة إلى النعيم الباقي إلا أن تقنع بالقريب الميسور الذي هو «الكشكار»، وتغض الطرف عن البعيد العسير الذي هو «العلامة»، ومن ثم نطقت ألسنتهم بمحتوي قلوبهم، فقالوا بتلك الأمثال الجميلة ذات المغزى والمعنى. الآن.. ماذا جري؟!.. كَثَرَ العويل وزاد الصُراخ.. بسبب أو في الغالب بغير سبب، لأن الأبصار قد تعلقت «بالعلامة» مشرباً ومأكلاً وملبساً ومسكناً، واستهوي القلوب ركضٌ نحو سراب يحسبه الظمآن ماءً، وتسرب الظن إلي نفوس اللاهثين بأن السعادة.. هناك.. عند المنعطف الذي لا يأتي أبداً!. كما أننا أمام زمجرة غير مبررة، تتزايد وتيرتها في المجتمع العربي والإسلامي يوماً بعد يوم، بل ربما علا ضجيجها فوق أصوتٍ ذات حياء، تئن في الخفاء حرماناً وألماً، من جوع أو من خوف أو من مرض، قد كان جديراً أن نصمت صمت الرضا، لنتلقط من وراء جُدُرِ الحياء شفرات شكواها، من قبل أن تُرفع إلى من لا تضيع لديه المظالم.. هناك الأهم ثم المهم، والأولي، فالأولي.. يجب أن نعي ذلك جيداً. وفي هذا السياق لا بد من طرح سؤال هام.. هل نملك ثقافة الموازنة بين الحاجة والطلب؟!.. بمعني امتلاك الأمانة الكافية للتعبير الدقيق عن نواقص ضرورية في نواحي العيش بلا مبالغة أو تهويل؟.. بالأمس كان يدور المنادي في الطرقات هل من مُعسر؟.. هل من جائع؟.. هل من محتاج؟.. وكان يدور ثم يعود بما لديه من مال وغِلال، لأن السامع حاز صدق الطلب فألزم النفس بالتعبير عما يلزمها فقط، ولذا سمعنا أن القمح كان يُنثر علي قمم الجبال ليأكل الطير منها.. أين توارت هذه الثقافة؟!. إن الرضا بالغالب الموجود نعمة، والتطلع بقلق إلى الغائب المفقود نقمة!.
إنشرها