Author

أحسدُكَ لأنك بلا قدَميْن!

|
وما زالَ إرثُ ''ناجي'' حياً.. ''عمي نجيب الزامل، أنا اسمي ''محمود النجار''، عمري تسعة عشر عاما، أحد قرائك في فلسطين. شدَّتني سلسلة مقالاتك حول السعادة، وأثارت فيّ الذكريات، فوددتُ مشاركتكَ قصتي القصيرة.. قصة حياتي. عندما سرق الأعداءُ بلدي، سرقوا بيتَ طفولتي الذي أحببته، سرقوا روحَ أبي المناضل. وسرقوا مني رجليَّ القويتين حين أتلفوهما حتى وجَب بترهما، وفي الثالثة عشرة من عمري، صرتُ.. بلا رِجلـَيـْن. فتحولت إلى شبح روحٍ مشحونةٍ وحزينةٍ لأنني لم أعد أُعْرَفُ إلا بعلامةِ نقصي. ''من؟ محمود؟ هل تقصد ذلك الفتى بنصف جسد؟''، وتمر الأيامُ ثقيلة على قلبي، حتى أتى اليومُ الذي اكتشفتُ فيه مدوّنةً إلكترونية صاحبها معاقٌ موهوبٌ يُدعى.. ''ناجي''. راسلتُ ''ناجي'' طامعاً بالتعارف، أو طامعاً بالمواساةِ من شريكٍ لي في همّ الإعاقة. ويفتح لي ''الأستاذ'' صدرَه، ويُدخلني قلبه من الرسالة الأولى. أقول ''الأستاذ'' لأنني أحببتُ موضع التلميذ بين يديه، ولأنني كنت بانتظارِ رسائلِه اليومية، أنتظر درساً جديداً في السعادة، وأعجب لهذا العظيم الذي يحوّل كل سوءٍ في حالِهِ الى نِعمة، وكل حزنٍ في قلبه إلى نافذةٍ للفرح.. كان ناجي إيجابياً عجيباً، فهو يخبرني أنه يفضّل الكرسيَّ المتحرك اليدوي على الكهربائي، لأن عضلات ذراعيه صارت أقوى، وأن هذا التمرين يفوت الكثير من الأصحاء، ويخبرني كيف يشعر بحلاوة الانتصار حين يكون قـَطـْعُ الشارعِ واعتلاءُ الدرج وتجاوز العتبات تحدياً له، فيحوّل مشاعرَ البغض تجاه كرسيي المتحرك إلى محبةٍ وسعادة لا نظير لهما، يحوّل مشهدَ العجز التراجيدي إلى مشهدٍ كوميديٍ ساخر، ويقول لي: ''عليك ألا تبالي بنظراتِ الشفقة التي يوزعونها حولك، فهم في الحقيقة يحسدونك، واسمح لي أن أكون أكثر الحاسدين لك (!) فأنت بلا رجلين، ولا تحمل كما الجميع عبءَ شراء أزواج الأحذية والجوارب.. أما أنا فمضطرٌ لدخول محال الأحذية بكرسي المتحرك، ومكافأة رجليّ المشلولتين بحذاءٍ جديدٍ كل فترة! هه، هكذا يحكم القويُ الضعيف''!. أخبرته يوماً بأنه أسعد مني بالتأكيد لأنه يملكُ جسَداً كاملاً، ورجلين كاملتين لا يفتقدهما كل صباح، فجاءني منه عتابُ المحبّ: ''السعادة في القلب يا محمود، وليستْ في الرجلين''. حين كان يؤلمني الناسُ بإطلاق الأحكام الظالمة عليّ، وحين كان يصيب ناجي نفسَ الألم كنا نقرأ معاً كلمات جبران التي كتبها حين ''وُلِدَتْ كآبتـُه، وماتتْ مِسَرّته'' ونذرف دموعَ التأثر معاً، ثم كان يسألني أن أعاهده برعاية سعادتي جيداً كي لا تموت كما ماتت مسرّة جبران.. علمني ناجي أن السعادةَ هي الرضا، وأنها استشعار القيمة أو إيجادها، وقد أوجدَ فيّ القيمة حين وهبني عشقَ القراءة، وعلّمني فنّ الكتابة، وأعطاني فرصَ التحاور العلمي والأدبي والفلسفي معه، حتى أنساني رجليّ المفقودتين، وزرع في عقلي ''القيمة الحقيقية''. لم أعلم أن ذلك الشابَ الذي يراسلني، ذلك الأستاذ المتفائل والباسم والسعيد كان أكثر عجزاً جسدياً مني، إلا حين جاءت مقالاتُك في الصحف، وعلمتُ منها بأنه كان ''أخرس'' كذلك، ولم أكد أصدّق، فقد كان ''يتغنّى'' لي بسعادةٍ جبارة ليلَ نهار.. أستاذي ناجي هو نجمي المضيء.. ومعلّمي الأول في السعادة. وفي الذكرى السنوية الثالثة لرحيل ناجي إلى السماء، أهديه سعادتي التي خلقها في روحي من العدم.. السعادة الأبدية إن شاء الله. .. أما ما يخفف عنا شوق الفراق نحن ''أصدقاء ناجي'' في فلسطين، فهو كون الدعاء لحضرتك الوِرْدَ اليومي لنا طيلة هذا العام. من: تلميذ ناجي، السعيد على كرسيه المتحرك: محمود النجار.'' تذكروا يا أحبتي، تذكروا أن ذاك الصبي الملاك توفي وهو على أبواب الثامنة عشرة، وصنعَ ما صنع. وما زال.. (*) لمن يريد التواصل مع محمود النجار: [email protected]
إنشرها