هل يمكن تنفيذ المشاريع الحكومية كما خطط لها؟

هل يمكن تنفيذ المشاريع الحكومية كما خطط لها؟

كثر الحديث في الشهرين الماضيين–خصوصا بعد كارثة سيول جدة وما أعقبها من حوادث مشابهة- عن ضرورة مراجعة آلية تنفيذ المشاريع الحكومية بل ومراجعة منهجية إدارة المشاريع لجميع مشاريع الدولة، كما شددت الحكومة الرشيدة من خلال قرارات مجلس الوزراء ومن خلال تصاريح أمراء المناطق في الآونة الأخيرة على ضرورة تنفيذ المشاريع بالشكل والسرعة المطلوبين، و تساءل الناس في مجالسهم الخاصة منها والعامة: هل هناك أمل في تنفيذ أي مشروع إنشائي حكومي في وقته المخطط له وبتكلفته المقدرة مسبقا وبالجودة المطلوبة المنصوص عليها في العقود، ويظهر أن أغلب المتداخلين وصلوا إلى نتيجة حتمية وهي أن تحقيق هذا يعد ضربا من الأحلام. ولكن أيضا–ولله الحمد- لا يخلو من ضمن المتداخلين في هذا الحديث من وجود فئة متفائلة يؤكدون أن تحقيق المعايير الثلاثة للنجاح (الوقت والتكلفة والجودة) مستحيل ولكن تحقيق معيار واحد منها أمر قابل للتحقيق والإنجاز!  وهنا لا بد أن نشير إلى الفرق بين آلية تنفيذ المشاريع وبين منهجية إدارة المشاريع فالمنهجية تفرز آلية التنفيذ وتؤطرها فالمنهجية قد تكون واحدة وتتضمن عدة آليات لتنفيذ المشروع، كما أن المنهجية هي سلسلة من التعليمات والمبادئ التي تطبق على حالات معينة في بيئة المشروع وهذه التعليمات والمبادئ ممكن أن تكون على شكل قائمة من المهام والأعمال وهي طريقة معينة واضحة المعالم تستخدم على امتداد فترة حياة المشروع. منهجية المشروع لا بد أن تقود العمل الذي يقوم به فريق عمل المشروع خلال دورة حياته وبالتالي لا بد لكل عضو من أعضاء الفريق أن يكون واعيا لمهامه وواعيا للمنهجية التي يتبعها فهي نقطة الالتقاء لفريق العمل.  فهل صحيح أن تحقيق المعايير الثلاثة أمر مستحيل؟ وعلينا أن نقتنع أن هذه طبيعة الأمور التي قد تعد من سنن الحياة، ومن التعقل أن نطلب المستطاع وألا نكون قاسين في الحكم، فمن لم يشارك في تنفيذ المشاريع يجهل صعوبات التنفيذ ويجهل صعوبات الإدارة، فالمشكلة عميقة وموجودة في جميع الدول، ألم نسمع عن مشروع مبنى البرلمان الأسكتلندي الذي افتتح في 2004 ميلادية الذي تعدت تكلفة إنشائه عشرة أضعاف التكلفة المقدرة له وتجاوز وقت تسليمه المفترض بثلاث سنوات، حيث كانت تقديرات تكلفته الابتدائية تتراوح بين 10-40 مليون جنيه استرليني بينما كانت التكلفة الفعلية هي 414 مليون جنيه استرليني! وهذا مثل واحد من المشاريع ضمن آلاف المشاريع حول العالم التي فشلت في تحقيق هذه المعايير الثلاثة مجتمعة.  الإجابة عن هذا السؤال بالنفي المطلق قد تكون صعبة جدا  بل ستكون محرجة للمتخصصين في إدارة المشاريع الإنشائية (إدارة التشييد) إذا ما أصروا على أن العصا السحرية في تطبيق منهجية سليمة لإدارة المشاريع، وأن تحقيق هذه المعايير الثلاثة دون أي انحراف عن المخطط له هو سهل المنال، لأن السؤال الذي سيواجهونه هو: ما تلك المنهجية؟ وبالتالي سيكون جوابهم ''المفترض’’ أن لكل نوع من المشاريع منهجية تناسبه وقد لا تناسب غيره وعملية اختيار المنهجية المناسبة تحتاج إلى خبراء ومتخصصين يشكلون لجاناً لدراسة المنهجيات المتوفرة أو ابتداع منهجية جديدة تتوافق مع طبيعة المشروع وحجمه ودرجة تعقيده ومدته وطبيعة المنظمة المنتمي إليها.  أما الإجابة بالقبول المتحفظ فقد تكون أنسب وأكثر إقناعا، لأن الفرد عليه العمل وأخذ جميع الاحتياطات أما النتائج فهي في علم الله. لا تعني هذه الإجابة مطلقا أن منهجية إدارة المشاريع ليست مهمة، بل أقول إن المنهجية أكثر من مهمة وقد وصلت إلى درجة الضرورة، ولكن الهدف دائما لهذه المنهجيات هي أن تُجعل عمليات إدارة المشاريع جزءا من ثقافة العمل اليومية والسبيل لتحقيق ذلك هو التوجه للعمليات القياسية وهذا يعد مطلباً أساسياً ورئيساً. بل إن تحقيق هذه المعايير الثلاثة ليس أمرا مستحيلا على الإطلاق ولكن في الوقت نفسه ليس بأمر سهل المنال.  ما يساعد على القرب من تحقيق هذه المعايير الثلاثة هو أن جميع الوزارات الحكومية وصلت حد النضج ووصلت بمشاريعها –أو أغلبية مشاريعها- إلى مرحلة الأنموذج المتكرر، وبالتالي إدارة المشاريع تصبح ذات طابع مؤسساتي An Institutionalize Process وهذا يجعل المخرجات من هذه العمليات متوقعة بشكل كبير، وكنتيجة لذلك تصبح إصابة المعايير الثلاثة أعلاه بنجاح أمراً ممكنا لكل مشروع. ولكن هناك شروط لا بد من تحقيقها للظفر بنتائج مرضية، ومن أهم هذه الشروط:  أولا: منهجية إدارة المشاريع لا تكون منعزلة بذاتها عن باقي العمليات الإدارية والتنظيمية للوزارة أو للجهة الحكومية بل لا بد أن يكونا متكاملين متداخلين مع بعضهما البعض يدعم كل منهما الآخر.  ثانيا: أي تغيير في العمليات الإدارية والتنظيمية للمنظمة له تأثير على منهجية إدارة المشاريع والعكس صحيح وبالتالي التحديث والتعديل دائما مطلوب، فكلاهما ليسا بموادٍ جامدة بل هما عمليات ديناميكية لا بد لها أن تتصف بالمرونة والتأقلم السريع مع طبيعة المشروع وحجمه ومدته والهدف منه ... إلخ.  ثالثا: وجود جهة تتابع وتهتم بمنهجية إدارة المشاريع، فالمنهجية تحتاج إلى من يرعاها ويتأكد من تطبيقها بالشكل الصحيح ويعزز ويدعم دور من ينتمي إليها كما يرعى تقدمها وتطورها وتحديثها ولا بد أن تكون هذه الجهة ذات صلاحية وذات تواصل مباشر مع الإدارة العليا للمنظمة فبدون الدعم المباشر من الإدارة العليا للمنظمة لن تصل منهجية إدارة المشاريع إلى نتائج مرضية.  رابعا: المنهجية لا بد أن تحقق تحالفا بينها وبين أهداف المنظمة التجارية إن وجدت، وفي حال المنظمات الخدمية الحكومية فالتحالف يكون مع رضا المستفيد من الخدمة.  خامسا: في الغالب كل شيء له ماض بشكل مؤكد، ونحن نحاول جاهدين أن نستدعي المستقبل، ولذلك علينا أن نفحص طريقة سير المشاريع في الماضي لذات المنظمة وأن نستفيد من ماضيها في تنفيذ مشاريعها وأن نستفيد من الأخطاء السابقة حتى لا نقع فيها.  سادسا: منهجية إدارة المشاريع لها علاقة وثيقة بالتقدم وصنع القرارات، ولذلك لا بد أن تتضمن مجموعة من العمليات التي تحتوي بداخلها على مجموعة من الإجراءات وهذه الإجراءات لها نقاط واضحة مرجعية لصانع القرار وفي ذات الوقت مجموع هذه العمليات والإجراءات لا تغفل عن تحديد وقت صناعة القرار وكيفيته وأسبابه الداعية له، كما لا تغفل عن تسجيل التقدم بكل معطياته بشكل ميكانيكي متقن.  سابعا: المنهجية قد تتضمن بداخلها عدة منهجيات تتوافق مع نوعيات مختلفة من المشاريع وبالتالي استراتيجية المشروع هي ضمن المنهجية وتحديدها في المراحل الأولى من المشروع يساعد على اختيار المنهجية الثانوية المناسبة لتنفيذ المشروع وإدارته.  أخيرا، وليس آخرا - فللحديث بقية - عديد من منهجيات إدارة المشاريع المستخدمة اليوم تهدف إلى إصابة أهدافها في تحقيق المعايير الثلاثة ولكن - وللأسف-  إما أن تكون مستخدمة في المكان الخطأ أو تطبق بشكل مجتز يحرمها من اكتمال عقدها، فليس هناك منهجية صحيحة ومنهجية خاطئة بل المسألة مسألة تختص بالتطبيق بشكل مناسب وفي المكان المناسب ومن أعضاء فريق عمل مناسبين.    د. عبد الرحمن بن سالم باقيس
إنشرها

أضف تعليق