مات النشر.. عاش النشر

مات النشر.. عاش النشر

يكثر الكلام عن موت النشر التقليدي وانتهاء عصر الكتاب الورقي إلى غير رجعة، ويرجع القائلون بهذا الأمر لعدة أمور منها الأزمة المالية العالمية ومشكلة الورق المصنوع من موارد ناضبة وتوجه المستفيدين إلى البدائل الإلكترونية. ولكن لا أحد يتكلم عن ماهية هذا النشر الذي قارب الانقراض، فالنشر هو النشر أكان الكتاب ورقيا أم على قرص مدمج أم محفورا على حجر. كما أن الحديث عن الموت التقليدي لا يخلو من تباهٍ رقمي يملأ المنادين به ويظهر الآخرين على أنهم أميّون تقنيا ويجب عليهم التعامل مع حتمية التكنولوجيا. فيما يبدو جليا أن الذي اختلف هو تكلفة المنتج النهائي والذي أعتبره حجر الزاوية في كل حديث عن النشر ومستقبله. فالقارئ يريد الاستفادة من تطور التقنية في الحصول على معلومات أكثر بسعر أقل، بينما يريد الناشر عكس ذلك، ويريد أن يقنعنا أن النشر الإلكتروني اختراع مكلف لأنه يفتح آفاقا جديدة للقارئ يجب أن يتحمل بعض تكلفتها، ويضيع المؤلف المبدع المسكين بين هؤلاء. ويستشهد البعض بانحسار الإقبال على الصحافة الورقية إلى الصحافة الإلكترونية، ورغم أن الصحافة جزء مهم من النشر ولكنها لا تمثله، ولا يعني الكساد الذي تشهده كسادا للكتاب، فهنا طبيعتان مختلفتان، هنا قارئ يريد سرعة وصول الخبر، وهنا قارئ يريد الاستمتاع والتعليق وإدراج الحواشي. كما أن الإقبال على الصحافة الإلكترونية لا يمثل انحسارا للورقية، فمعظم القادمين الجدد للصحافة الإلكترونية يقبلون عليها لأنها هناك ومجانا، ولم يكونوا يوما قراء جادين للورقية لذلك لا يمكن إدراجهم في الإحصائيات كنصر للرقمي. كما أن الصحافة الورقية ولدت وستموت عاجزة في العالم العربي، حيث يشكل الفقر والأمية جزءا مهما من حياة المستهلك، ولم تستطع الصحافة الورقية في أي يوم أن تصل إلى القارئ العربي كما كان جديرا بها أن تفعل، كما أنها لم تكن يوما جاذبة لهذا القارئ بل مفروضة عليه. كما لا يتم الحديث أبدا عن الملكية الفكرية وحقوق المؤلف عند الحديث عن النشر، ورغم أن هذا الجانب لا يهم الكثير من القراء بقدر اهتمامهم بالحصول على المعلومات، إلا أن الملكية الفكرية تشكل جزءا مهما في التأثير في حركة النشر بكافة أشكالها. أما الحديث عن الرقابة فليس له دليل، فالكتابة على الإنترنت كما الكتابة على الورق لها أكثر من رقيب، ولكن هاجسنا الأول يبقى الرقيب الحكومي الذي نتهمه كلنا بمختلف مشاربنا بأنه يحابي الآخر ويتصيدنا. كما أن الحديث عن غياب الرقيب عند الحديث عن الصحافة والنشر الإلكتروني يظهر خللا في فهم آلية العمل الإعلامي كاملا. فالهيكلية التي تشكل الصحافة التقليدية يجب أن تشابه هيكلية الصحافة الإلكترونية، وإلا فإنه لا يمكننا الحديث عن هاتين كقرينين، نحن هنا نتكلم عن كيانين مختلفين تماما لذلك لا نستطيع أن نستخدم الأحكام نفسها جزافا. لذلك فإن مثل هذه المقارنة تظلم الورقي والرقمي على حد سواء، تظلم الورقي لأنها تظهره كشهيد وما هو بذلك، وتظلم الرقمي لأنها تظهره كمنقذ وهو ليس كذلك. عدد القراءات: 215 * "هذه المادة منتقاة من "الاقتصادية الإلكترونية" تم نشرها اليوم في النسخة الورقية"
إنشرها

أضف تعليق