Author

المعجزة المصرية الجديدة ودور الإعلام في ترويجها

|
أستاذ جامعي ـ السويد
الإنسان مخلوق ضعيف مهما تكبّر وتجبّر بعلمه وإنجازاته. منحه الله عقلاً فريدا بيد أنه محدود الإدراك أمام معجزة الكون. ولهذا يستنبط طرقا شتى كي يستوعب الأرض التي خلقه الله عليها والكون اللامتناهي من الكواكب والمجرات. ولم يستطع الإنسان قبل حلول الديانات السماوية استيعاب الظواهر الطبيعية والكونية فاتخذ من بعضها آلهة وكان عقله ضعيفا لدرجة أن جعل من تماثيل منحوتة من الذهب والحجارة الكريمة وكأنها خالقة للكون. والمعجزات ترافق الأديان. وكل دين يتباهى بأنّ ما لديه من معجزات يفوق ما للأديان الأخرى ويجعل منها وسيلة إيمانية تريحه من استخدام عقله لتفسير الظواهر الكونية تفسيرا علميا منطقيا. ما المعجزة؟ المعجزة تترك أثرا نفسيا وفكريا كبيرا في الإنسان تجعله يتقبلها على ما هي عليه دون تمحيص واختبار. وهذا ما يفعله إعلام اليوم الذي يترك فينا آثارا نفسية وفكرية وأيديولوجية تجعلنا نؤمن بما يقوله دون أن نجهد أنفسنا أو حتى أن نسأل أنفسنا فيما إذا ما سمعناه أو شاهدناه أو قرأناه كان صحيحا أم لا. أكتب عن المعجزات بعد ما تحول اهتمام الإعلام المصري من كرة القدم إلى «معجزة» تجلي أو ظهور مريم العذراء في كنيسة قبطية في الجيزة. لقد أفادني هذا الاهتمام الكبير بهذه الظاهرة «المعجزة» لأنه دليل ملموس على موقفي الأكاديمي من أن الإعلام يلعب الدور الذي كانت المعجزة تلعبه في الماضي لدرجة أن العلاقة بين الاثنين صارت علاقة جوهرية متينة. وأكثر فيلسوف تأثيرا في علاقة الدين بالإعلام هو جاك دريدا، لا سيما كتابه الذائع الصيت «الإيمان والمعرفة»، الذي جرت ترجمته إلى معظم اللغات الحية ومنها السويدية عدا العربية، ويحزنني أن أقول إن هذا الفيلسوف الكبير غائب عن المكتبة العربية وعلى حدّ علمي هناك كتاب واحد عنه فقط بعنوان «ثورة الاختلاف والتفكيك» لمؤلفه الدكتور عصام عبد الله. غيابه بهذا الشكل خسارة كبيرة للعقل العربي لأن دريدا يمتحن أو بالأحرى يفكك معظم افتراضاتنا ومعتقداتنا ويلامس ويدغدغ المفاهيم الأكثر حساسية فينا فهو بدلا من تعرية أجسادنا يعري جذورنا الفكرية والعقائدية. والذي يقرأ دريدا بتمعن يستوعب ظاهرة «تجلي أو ظهور» مريم العذراء في مصر واهتمام الإعلام المصري بأشكاله المختلفة بهذا الحدث. والبشر ليس بودهم أن يمتحن أحد فرائضهم لأنهم شابوا عليها فهل بالإمكان أن نمتحن هذه الظاهرة رغم حساسيتها ورغم ما قد يصيبني بسببها من نقد وهجوم كما حدث لإحدى مقالاتي في أحد المواقع الإعلامية الدينية. أتصور أن هناك اختلافا جوهريا بين المسيحية والإسلام قد نلحظه ولكن قلما نستوعبه. المسيحية بصورة عامة مولعة بالمعجزة وتترعرع وتحيا بها لاسيما الصورة والأيقونة. الإسلام مولع بالصوت والكلمة. ولهذا فإن ما يدهش الزائر لكنيسة هو أبّهة الأيقونات والصور والتحف وما يدهش الزائر إلى جامع هو صوت المؤذن وكلماته. ولكن علينا أن نتذكر أن المذهب المسيحي الذي كان متغلغلا في الجزيرة العربية إبان ظهور الإسلام لم يكن يَعِر على الإطلاق أية أهمية للصورة وكانت كنائسهم خالية من التماثيل والأيقونات ولم يقبلوا بها إلا بعد أن قبل كثير منهم اعتماد المذهب الكاثوليكي الغربي في القرن الثامن عشر. أما الذين رفضوا الكثلكة منهم فلا تزال كنائسهم حتى اليوم ذات حيطان جرداء شأنها شأن الجوامع. هؤلاء كان يطلق عليهم السريان الشرقيون، الذين كانت لهم حظوة كبيرة لدى البلاط العباسي لما قدموه من خدمات جزيلة للعروبة والإسلام. وهناك مسألة أخرى ذات شأن في تفكيك العقيدة المسيحية والإسلامية. هذه تخصّ مدى استيعاب أحدهما للآخر. المسيحية كعقيدة لا تستطيع إيواء الإسلام ونبيه وأصحابه. الإسلام من السعة بحيث يستطيع إيواء نبي المسيحية وأمه، مريم بنت عمران، وحواريه والأنبياء من بني قومه الذين سبقوه. مهما يكن من شأن تجلي أو ظهور العذراء مريم في مصر، فإن المسلم الحقيقي لا يستطيع التفوه بأي كلمة سلبية تجاه التي خصها القرآن ليس بسورة كاملة بل بصفات تحسدها عليها زوجات الرسول وبناته. وهكذا ترى كيف يتجاسر بعض المسيحيين وكهنتهم المتعصبين، ومع الأسف الشديد، بالتفوه بكلمات نابية وفي الإعلام عن أمهات المؤمنين ويقف المسلم حائرا لا يعرف ماذا يفعل لأنه يجلّ مريم بنت عمران أيما إجلال. والمسلم الحقيقي يقف حائرا أيضا أمام ظاهرة «تجلي» مريم بنت عمران. هذه ليست معجزته. معجزته هي قرآنه وما فيه من معجزات التي تركّز الذهن على الكون وموجوداته: «وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا»، « إن فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.» وإلى اللقاء.
إنشرها