Author

مصنعُنا الداخلي.. هو العالم!

|
.. من موظفٍ في شركة كبيرة جاءني هذا السؤالُ: ''أرى المسؤولين الكبارَ وهم يعبرون ممراتِ الشركات وكأنهم يملكون العالمَ، فهل يجوز لي أن أغبطهم على سعادتهم، وبصراحة هل هؤلاء مثار حسد؟''، ورددتُ عليه بمقال ظهر في الشركة التي يعمل بها. فعلاُ.. كثيرون من الموظفين ينظرون إلى الرؤساءِ الكبار وهم يتجولون في الردهاتِ، ويرون أنهم يتهادونَ تحيطهم هالاتُ مناصبـِهم، فيأخذون نفسـَاً عميقاً، ويغبطونهم (في أحسنِ الأحوال!) ويقولون لأنفـُسِهِم: ''هؤلاء هم الفئةُ المختارة، هؤلاء هم المحظوظون.. هؤلاء هم الذين يأمُرونَ فيطاعون، هم أهلُ المُرَتـَّباتِ السمينة والسِرّية..''. ولكن توقف معي قليلاَ.. سأذكر لك حادثتـَيْن: الأولى: في عاصمةٍ شرقيةٍ كنتُ مع مجموعةٍ من أباطرةِ المال والقرارِ مع جمْعٍ رسمي، وكانت الوجوهُ كما يقول المِصريون: ''تقطع الخميرة من العجين''، لسطوَةِ تبرُّمها، وتعالي غطرستِها، وحِدَّةُ تجهُّمِها. والكلّ عنده مشكلة، والكلّ على حافةِ كارثة.. وكأنهم هم المساكين على الأرض. وشـَفـَّتْ الواجهةُ الزجاجيةُ الصقيلةُ للفندق ذي النجوم التي تتعبُ في عدِّها، عن وجهٍ شاب نـَضرٍ مشرق يمسح الزجاجَ من جهةِ الشارع، وعلى وجهه ابتسامةُ واسعة تشرق من أعماق كينونتِه، وكأنه اختصرَ فلسفةَ الحياةِ بتلك الابتسامة، وكأنه يقول بأنصَعِ دليلٍ تراه عينٌ: ''المهم كيف أشعر أنا؟'' بدا مُبتسماً، يعني أنه سعيد، والسعادةُ تعني الرِّضا، والرضا يعني الاكتفاء، والاكتفاءُ هو الجنة على الأرض. على أن أحد المُحنَّطين من الصفوةِ أشار إليه معلـّقاً: '' على ماذا يبتسم هذا.. الساذج؟ّ!'' في عاصمةٍ عربية عزمني وجيهٌ ثري، لا ليسَ ثريا، تعدى الصفةَ العادية للثراء كما تصفها القواميسُ، وأخذني لشرفةٍ ملكية جليلةٍ تُطِلُّ على حديقةٍ باذخةِ الروعة والتنسيق.. ثم بعد ذلك مباشرة يطل شارع ضيق ووراءه شبه حديقةٍ جافةٍ، وإذا بصاحبنا الوجيه يلوث الهواءَ من سيجارِهِ، سيجارٌ هافاني يحلـُف أنه ما دارَ إلا على...، المهم خلينا في الموضوع! نفَث صاحبُنا بركاناً من جوفِه ثم راح يتحدث عن القلق، وجسامة الصِّعاب، ومآزق المشاريع، ومسؤولية المال، ومشاكل الأسرة، وتعثر البيروقراطية، وتعاسة الأُمّة.. حتى أني خفتُ على الرجل أن يهوي مع روبه ''الفرزاتشي'' الفارِه منتحراً من على الشرفة، وتصورتُ ماذا سيكون مصيرُ السيجارِ الهافاني الفخم المجدولِ فوق .. المهم خلينا في الموضوع! في ذات الحينِ وقعتْ عينا صاحبي على رجلٍ صاحبَ عربةِ نزهةٍ يجرّها حصان مهزول، نزل من عربته وفرش بساطا، أو ما بقي من البساط، وتناول دافوراً، ثم وضع فوقه إبريقاً ضاع لونـَه مع سوادِ السَّخـَم، وأخذ من جيبه قليلاً من ورق الشاي الذي يُباع سائِباً مخلوطا أحياناً مع النشارة، ثم لما غلـَى الشاي، أسنـَدَ رأسَهُ على عجلة العربة المهترئةِ وراح يشربُ الشايَ واضعا ساقاً على ساقٍ يتأملُ نجومِ السماء. ثم فاجأني صاحبُنا الهافاني بقولِهِ: ''أنظر إلى ذاك الرجل.. مبسوطٌ على الآخر، إنه محظوظ والله''. وتراود بمخيلتي أن الرجل ينظر إلينا في نفس اللحظة من تحت وهو يقول: ''ما أسعَدَهُما، إنهما محظوظان والله''.. إن جوهرَ ما نشعر به يا أصحابي هو إنما موقفُنا أمام الحياة الذي ينعكس من موقف الذهن، وتصور عقولنا للمرئياتِ والمحسوساتِ.. ليس إلاّ!والحكمةُ إذن: متى تحرّرقلبُ وعقلُ المرءِ من القلق، والوَهَم، وملاحقة وقياس الآخرين بنفسِهِ، وانعتقَ من الخوف، فإنه من الطبيعي أنه سيكون أقل شكوى من العالم حوله. ما نحمله في قلوبنا، وما تصوره لنا عقولنا هو الكينونة الحقيقة؛ فأنتَ أسعدَ الناس إن حمَلْتَ طاقاتِ السعادةِ في داخلِك بغضِّ النظر عن مُقتنياتِك الماديّة، أو عدمها.. كلّ السرِّ أننا نحمل سرَّ سعادتِنا، وكوامن شقائِنا، وبشائر رضانا، ونُذُرِ تشاؤمِنا من مصنعنا الداخلي.. ما يخرجه هذا المصنعُ هو ما نتعامل به مع الخارج.. كان مصْنـَعا ذلك الشابّ عامل النظافة وسائق عربةِ الحصان الداخليَّيان، يُخْرِجان أجملَ المنتجاتِ وهي: القناعةُ والرضا والحبورُ، وكانت مصانعَ داخليةً معقدةً مُطهمة لا تصدِّرُ إلا القلقَ والتشاؤمَ من الصفوة والأثرياء.. لذا، فالثرءُ لا يعني شيئا إن لم يكن مصنعُك الداخلي هو الذي يصدّر الثراء! عندما ترى يا صديقي رؤساءك الكبارَ مرة أخرى يمشون في الرُدهاتِ فلا تظنّنَ أن الهالاتِ التي تراها أنت حولهم، يرونها هم أيضاً، فالذي يرونـَه قد يكون تلك الهالاتِ السوداءَ التي تبقى أثراً في العيون بعد تلقي الضربات! أرجو أن تبادر بالسلام علي أيٍّ منهم، وتبتسم في وجهه بمحبّةٍ، وتدعو من أعماقِك بأن يكون سعيداً وراضيٍا.. كما أنت!
إنشرها