Author

العام الهجري الجديد وقانون السببية

|
غدا أول أيام العام الهجري الجديد، الذي يرتبط في قلوب المسلمين جميعا بذكرى هجرة المصطفى ــ صلى الله عليه وسلم ــ من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، والتي ذكر الشيخ محمد الغزالي في عدد من كتاباته عن القضايا الإيمانية المرتبطة بالهجرة، وماذا تعني للمؤمن والمسلم منها أنها تعني للمسلمين (إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب)، وكما يقول الكاتب وصفي عاشور في تحليله لكتابات الشيخ الغزالي عن الهجرة النبوية: (كان المنتظر أن يقول «إيمان بالغيب وثقة بالمستقبل»، لكنه عبر مع المستقبل بالإيمان ليرفع الثقة بالمستقبل إلى درجة العقيدة والإيمان بالغيب. فلن تكتمل حقيقة الدين في القلب إلا إذا كان الإيمان فيه بالغيب قسيم الإيمان بالحاضر، ولا يصح تدين ما إلا إذا كان الإنسان مشدود الأواصر إلى ما عند الله، مثلما يتعلق بما يرى ويسمع في هذه الدنيا؛ فالمجاهد مثلا يقاتل من أجل النصر للعقيدة أو الشهادة لنفسه، لكن النصر عنده غيب، خصوصًا إذا وهنت الوسيلة، وقل العون، وترادفت العوائق، بيد أن هذا النصر ينبع من الإيمان بالله؛ فهو يمضي في طريقه المر واثقًا من النتيجة الأخيرة. إن غيره يستبعدها أو يرتاب فيها، أما هو فعقيدته أن اختلاف الليل والنهار يقربه منها وإن طال المدى؛ لأن الله حقَّ على نفسه عون الموحدين ونصر المؤمنين.. فلماذا الخوف من وعثاء الطريق وضراوة الخصوم؟ ولِمَ الشك في وعد الله القريب أو البعيد؟! إن المهاجرين الأوائل لم ينقصهم إيمان بمستقبل أو ثقة بغيب، إنما نهضوا بحقوق الدين الذي اعتنقوه، وثبتوا على صراطه المستقيم، على الرغم من تعدد العقبات وكثرة الفتن، من أجل ذلك هاجروا لمَّا اقتضاهم الأمر أن يهاجروا، وبذلوا النفس والنفيس في سبيل عقيدتهم. ومع أن الله تعالى وعد المؤمنين أن رسالتهم ستستقر، وأن رايتهم ستعلو، وأن الكفر لا محالة زاهق، إلا أنه علق أفئدتهم بالمستقبل البعيد وهو الدار الآخرة: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف 41- 44). ومن هنا لا يعتري النفسَ مللٌ، ولا الجسم كلل؛ لأن أشواقه ممتدة إلى المستقبل البعيد، وآماله قد طارت لتحط في أفراح الآخرة عند رب العالمين). ماذا يعني لنا إذا كل عام هجري جديد؟ الإجابة أنه يعني أننا نرتبط بدائرة اليقين في قضاء الله، وأننا ذرات ندور في فلكه تحسب علينا الدقائق والثواني ماذا قدمنا وقد انتقص من عمرنا عاما كاملا ؟ بثلاثمائة وستين ليلة ويوما، وماذا سنقدم لعام مقبل، نأمل بضعفنا البشري أننا سنعيشه ولكن بقدرة الخالق الذي رسم خطوط حياتنا وحدد آجالنا إلى تاريخ الرحيل. غدا أول يوم هجري جديد. نسترجع أحداث عامنا الماضي ماذا قدمنا لخدمة ديننا وإعمارا لحياتنا الدنيوية. من مات وودعناه من الغوالي، ومن رحل من غرقى وشهداء كارثة جدة لا يزالون أمام العيون وفي ذاكرة الوطن تضيء أسماؤهم مع شهداء الجنوب جنود الوطن. غدا أول يوم من أيام العام الهجري الجديد.. ونحن لا نزال ننتظر ترميم البقايا من المنازل في أحياء جدة المنكوبة، وننتظر إعادة السكان إلى أحيائهم وقد تم إصلاحها، وتكون لهم بداية انتقال جديد من واقع مأساوي كانوا يعيشون فيه إلى واقع قادم وعد به خادم الحرمين الشريفين، يحفظه الله، بعد محاسبة المتسببين عن هذه الكارثة. يحلم أهل جدة بتلك المرحلة المقبلة من إعادة التخطيط لكل جزء فيها, والتي تسمح لكل فرد فيها أن يحظى بالضمانات الحياتية التي يستمتع بها مواطنو الدول المتقدمة ولن أقول الدول الخليجية فقط. نحلم في أول يوم من عام هجري جديد أن نجد المحاسبة الفورية لكل مسؤول يقصر في أداء أمانته. نحلم بعام هجري جديد، نبدأ فيه تفعيل مؤسسات المجتمع المدني، ومنها (جمعية حماية المستهلك)، وأن يكون للمواطنين حق الحماية من جشع التجار والسماسرة الذين يسترزقون من إخفاقنا في منعهم من الجشع والمساومة على احتياجاتنا الغذائية والسكنية والصحية، والبقاء تحت سيطرة هذا الجشع في رفع الأسعار والإخلال بالنسيج الاجتماعي لمعنى التكامل بين السائل والمسؤول. نحلم بعام هجري جديد يكون بداية للقضاء على مشكلة (البطالة), لأن في القضاء الحقيقي عليها والقضاء على (الفقر) المخرج من نفق عديد من نتائجهما المدمرة لبنية المجتمع، وسيتم الحد من انتشار المخدرات وحالات السرقة والابتزاز، وحالات الانتحار. نحلم بعام هو البداية للقضاء على (المحسوبية والوساطة) التي تدمر البنية الاجتماعية والاقتصادية لأي مجتمع تستشري فيه. نحلم بعام هجري جديد يكون فيه التعزيز والمحافظة على تشريعاتنا الربانية، والاستمرار في توفير (البيئة الآمنة لتعليم وعمل النساء في مجتمعنا المسلم), فنحن كنا وسنبقى خاضعين لتعاليم الدين والتشريع الرباني وليس التشريع الدنيوي الوضعي. ** إن منطق الإسلام هو احترام قانون السببية؛ لأن الله تعالى لا ينصر المفرطين ولو كانوا مؤمنين، بل ينتقم من المقصرين المفرطين كما ينتقم من الظالمين، وإذا تكاسل الفرد منا عن أداء ما عليه وهو قادر، فكيف يرجو من الله أن يساعده وهو لم يساعد نفسه. كيف ينتظر المرء من الله أن يقدم له كل شيء وهو لم يقدم له شيئًا؟! وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سببًا، ولا أحكم خطة، ولا سد ثغرة. هذا المنطق كان جزءا من منطلقات الهجرة النبوية التي هي القاعدة لتاريخنا الحياتي بصفتنا مسلمين. ** غدا أول يوم في عام هجري جديد، فلنأخذ بأسباب الصلاح والقضاء على الفساد كي نحقق واجب الأمانة التي سنسأل عنها جميعا. وكل عام هجري والأمة الإسلامية بخير.
إنشرها