Author

جبروت الإعلام

|
في الشهر الماضي حدث تراشق إعلامي رياضي بين مصر والجزائر، أدى إلى ارتطامات عنيفة وربما أصبحت له نتائج وخيمة. فقد انطلقت وسائل الإعلام هنا وهناك تتبادل التهديد والوعيد، وتعيد للعالم صورة من الشفهية العربية القائمة على حشد كلامي ولغو لا قيمة له. يؤدي بنا ذلك إلى الوقوف لنتأمل ظاهرة غير مسبوقة وهي ظاهرة التسلط الإعلامي والمعلوماتي من خلال وسائل الاتصال والإعلام، والتي أتاحت للناس في كل مكان ولكل الشعوب والدول معلومات - معظمها غير مرغوب فيه - ومعظمها معلومات تبدد ولا تصون وتفرق ولا تجمع وتحدث انتهاكات هائلة للأنظمة الثقافية والاجتماعية القائمة. لقد أصبحت المعرفة بكل أشكالها والتاريخ البشري بل الحكمة والفلسفة الإنسانية مجرد أزرار ندقها بأصابعنا. فلدينا الآن من خلال شبكة الإنترنت القدرة على الوصول إلى كل المعلومات التي تمس الجنس البشري. وتفيد بعض الإحصائيات أن الإعلام الجديد هو إعلام نصنعه نحن كمواطنين عاديين، ولم يعد حكرا على حكومات أو هيئات ومؤسسات ومنظمات متخصصة، والدليل أن حجم الإنفاق على الإعلان في وسائل الإعلام التقليدية: صحافة - إذاعة - تلفاز، انخفض بنسبة 10 في المائة توجهت إلى مواقع مرموقة في الإنترنت أصبح لها روادها وجمهورها. وبطبيعة الحال فإن هذه المعلومات على ضخامتها ليست كاملة ودقيقة ومع ذلك فهي تنمو بشدة وسرعة هائلة، وهي متاحة لأعداد كبيرة من الناس، ومن المتوقع أن تزيد وتتضاعف بغض النظر عن الفروق الدينية والعرقية والمذهبية والاقتصادية والثقافية والعمرية. ووقفة سريعة أمام تاريخ الإنسان في الحصول على المعلومات تكشف الكثير. فقد كان معدل الوقت الذي يقضيه الإنسان للبحث عن معلومة واحدة هي شهران 1800م يبذل الإنسان جهده فيها ليل نهار وفي 1900 أصبح الوقت المطلوب للحصول على هذه المعلومة هو خمسة أيام فقط وفي 1990 أصبح الأمر لا يستغرق أكثر من نصف يوم وفي 2000 أصبح المطلوب سبعين دقيقة فقط, وفي سنة 2004 نحو ثانية واحدة فقط, وفي 2004 أيضا أصبح لجهاز بحث شبكة جوجل أربعة بلايين صفحة والتي إن طبعت يلزمها ورق بطول وارتفاع 220 ميلا. وقد صحب ذلك تحول هائل في طبيعة مصدر المعلومات فلم يعد هو الأب أو الأم أو الشيخ أو المعلم أو السياسي أو الحكم. هكذا يمكن القول إننا نقف بين نقيضين هما الحريات في مواجهة الاختلال والارتباك. لقد أصبحت المادة الإعلامية متاحة لكل بيت في أرجاء المعمورة، ففي آخر ربع في القرن العشرين، كانت المواد الإعلامية تدور حول العالم في صورة أفلام كتلك التي تنتجها هوليوود. وكانت الرسائل التي تبثها واشنطن وهوليوود تحمل أفكارا وقيما وأحلاما، وأوجدت الطلب على المنتجات الأمريكية من وجبات جاهزة إلى شيبسي إلى الفشار إلى الجينز. وتحاول وسائل الإعلام أن تقنعنا كقراء أو مستمعين أو مشاهدين بشيء ما. وبحكم طبيعتها فهي قادرة على تحقيق ذلك لأنهم يصرخون فينا من مواقع حاكمة ومؤثرة، وهناك الرسائل غير المباشرة التي ترد إلينا في المسلسلات وتحذيرات علب الدواء والتعليمات والإعلانات والنصائح والتوجيهات والمناشدات والالتماسات التي نستمع إليها ونراها، هذا إلى جانب ما نتعلمه من المذيعين فهم يعلموننا ويخبروننا من هو الإرهابي ومن هو الفدائي (حسب مصلحة كل محطة بطبيعة الحال)، أما إذا تحدثنا عن المعلم الذي يشرح لنا التاريخ والمنتج الذي يتحدثون عنه بإيجابية فإننا سندرك كم كنا ضحايا لمن تولوا تعليمنا وإعلامنا. إننا ـ شئنا أم أبينا – ضحايا لأكبر عمليات إعلانية ودعائية في التاريخ، بل نحن أكبر ضحايا لعملية الانتقاء والاختيار السلعي المستمرة. وهكذا فنحن بين نقيضين عصر الأفكار الخصبة والوفيرة في مواجهة عصر الإعلان والدعاية. وثمة ظاهرة ثالثة في عالم الإعلام تتمثل في سلسلة البث من مرسل إلى مرسل إلى آلة أو وسيلة. لقد بلغ توافر وسائل الإعلام حدا عظيما وكثرت الشبكات والأجهزة بصورة غير مسبوقة، مما مكّن الناس من التواصل مع بعضهم البعض سواء كان ذلك بهدف الإعلام أو الترفيه. إن هذا التواصل أصبح متاحا من البيت أو العمل أو أي مكان. ففي السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين كان 40 في المائة من سكان العالم يمتلكون أجهزة تلفزيون و20 في المائة لديهم كمبيوتر شخصي و17 في المائة لديهم تليفون متحرك ''موبايل''. لقد أصبح الوصول إلى أي فرد في أنحاء المعمورة حقيقة متاحة، وهكذا تفتحت إمكانات ممارسة التجارة والتعليم والترفيه بشدة، وهكذا استمرت قدرة الفرد على الاختيار في الزيادة. وهنا وقعت الخطوة المزعجة التي عصفت بكل شيء. فقد تهاوت فكرة تملك القلة لحقوق الإبداع سواء كان ذلك فيلما أو أغنية. لقد أصبح للأفراد في كل مكان القدرة على الوصول إلى ما يريدون بفضل التطورات التقنية. وتفيد بعض التقديرات أن 350 مليون شخص مارسوا القرصنة على منتجات الإبداع الخاص بالآخرين, وأن هناك 2.6 بليون ملف يتم تبادلها كل شهر. ومع بداية القرن الحادي والعشرين كان نصف الأمريكيين المشتركين في الإنترنت ويمثلون 38 في المائة من تعداد الشعب الأمريكي (الكبار) يستخدمون مصادرهم الشخصية من الإنترنت واعتبروا ذلك أفضل طريق للتعرف على الدنيا. واعتبر 20 في المائة من الأمريكيين أن الإنترنت أفضل مصدر عن أنباء الانتخابات واستخدموها للتحقق من كل وسائل الإعلام الأخرى. إننا في عصر يقوم الناس ببناء مكتباتهم بأنفسهم، ويعلمون أنفسهم بأنفسهم وانقصمت تدريجيا علاقة الولاء التي كانت تربط الناس بالوسائل التقليدية. ومع إعلام الشعب grassroots دخلنا حقبة جديدة. أي أننا أمام النقيضين: أننا بدأنا نعيش مجتمع الإنترنت أو عصر الفردية الشاملة في ذروة هيمنة الوسائل التقليدية.
إنشرها