Author

النهى بين شاطئيك غريق!

|
تتعدد التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه بلادنا، والتي كثيرا ما تناولناها هنا في مقالاتنا. كان هدف هذه المقالات هو التذكير المستمر بهذه التحديات التي يفرضها تغير الأحوال ونمو السكان، والتحذير من الاستهانة بها. ولعل كارثة سيول جدة وملابساتها تكون لنا عبرة. فبعضنا ما زال للأسف يظن أن هذه التحديات لم تبلغ بعد حد الجدة والخطورة، أو أنها ما زالت بعيدة، أو أنها قابلة للتأجيل، ولعمرك ستدهمنا كما دهمتنا السيول، فكل بعيد آت لا محالة. ليس من الوفاء لبلادنا ولا لمؤسسها التهاون فيما يهدد أمنها وسلامة استقرارها الاقتصادي والاجتماعي. الذين اتخذوا منها شاة حلوبا دون أن يراعوا في الله إلاً ولا ذمةً، هم ألد أعداء المجتمع وإن كانوا منا وفينا. لقد استباحوا رقاب الناس واستهانوا بصحتهم وحقوقهم الأساسية في المأكل والمشرب والمأوى. لقد وقفت بعد هذه الكارثة على أحياء مخططة وليست عشوائية لكنها أقيمت على تخوم الأودية وبطونها ونهاياتها، ورأيت بعيني منازل وأراضي تمر فوقها كابلات الضغط الكهربائي العالي. لقد بلغ الفساد حدا أصبح الجميع يراه ولا يجد وسيلة لصده، حتى بتنا نخشى - مع قلة حيلتنا - أن يكون الفساد قد أمسى عادة وثقافة في حياتنا، تطل من خلف الكواليس بلا حياء ولا وجل. واستمرأ الفاسدون في غيهم حتى أصبحوا – مع غياب المساءلة والحساب والعقاب – يمعنون في تحقيق مآربهم الحقيرة ويتجرؤون على مصالح العباد والبلاد التي لا يصح المساس بها أو التهاون في حمايتها! ستدخل انتفاضة خادم الحرمين الشريفين حول الكارثة التاريخ من أوسع أبوابه، وسينظر لبيانه كمرحلة فاصلة بين زمنين. وسيذكر الناس عهده بعهد الأبوة الحانية والنية الصادقة والنزاهة العالية. إن أهل الفساد الذين فقدوا مخافة ربهم وتحجرت قلوبهم وتجردوا من إنسانيتهم، لا يجدي معهم سوى سيف العدالة والحق. صحيح أن الفساد المالي والإداري لا يخلو منه مكان ولا زمان، بيد أن درجاته متباينة، ومسؤوليتنا القضاء عليه أو على الأقل تحجيمه بالأنظمة والمؤسسات لأدنى حد ممكن. والعالمون بقوانين الاجتماع البشري يدركون أن معظم الناس حتى في الدول التي يسودها القانون وتحكمها المؤسسات يخضعون للقوانين ويطيعونها، لا إيمانا بفائدتها على السلم الاجتماعي، وإنما خوف من العقوبة. وقد قيل إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. أوامر خادم الحرمين الشريفين بتعويض المتضررين وتكوين لجنة تقصي الحقائق تؤكد توافر إرادة سياسية لمحاربة الفساد والقضاء عليه، وآمال الناس اليوم معلقة على هذه اللجنة. بيد أن ضمان عدم تكرار مثل هذه الكوارث التي كان للفساد دور كبير فيها، يقتضي تفعيل أنظمة الرقابة القائمة ووضع ترتيبات جديدة في المؤسسات والأنظمة تمنع حدوث المفاسد ابتداء. وجدة المنكوبة تنتظر الآن جهودا سريعة تتخطى الروتين وتسابق الزمن لإنقاذ الناس وتضميد جراحهم ومعالجة صدماتهم. جدة في حاجة إلى اعتمادات مالية عاجلة لحماية المدينة وأخرى لرفع كفاءة الخدمات البلدية والدفاع المدني التي كشفت الأزمة عن تواضعهما الشديد. كما أننا في حاجة إلى خطط طوارئ وإدارة كوارث تستعد للأحداث ولا تستبعدها. تحية إكبار وتقدير للمتطوعين من شباب وفتيات ورجال وسيدات جدة الذين تضامنوا مع المنكوبين وضمدوا بحبهم جراحهم ومسحوا دموعهم. ورحم الله شاعر جدة وفيلسوفها القائل: النهى بين شاطئيك غريق والهوى فيك حالم ما يفيق ورؤى الحب في رحابك شتى يستفز الأسير منها الطليق إيه يا فتنة الحياة لصب  عهده في هواك عهد وثيق حبذ الأسر في هواك حبيساً بهوى الفكر والمنى ما يضيق مقبلاً كالمحب يدفعه الشوق فيثنيه عن مناه خفوق سلام على الغرقى والثكالى، سلام على اليتامى، سلام على المتضررين المحتسبين الصابرين، أهل الرضا واليقين. ولا حول لنا ولا قوة إلا بك، سبحانك إنك نعم المولى ونعم النصير.
إنشرها