Author

الواجب والممكن .. أم تراخي الإرادة؟

|
لن يكون في الإمكان هنا تقديم عرض مفصل لوجهة نظر كل من ابن سينا ورد الغزالي ثم رد ابن رشد عليهما معا في «تهافت الفلاسفة» «وتهافت التهافت»، فذلك ما يشغل مجلدات ... كل ما يمكن فعله إذن، هو إلقاء الضوء على طبيعة موقف كل واحد منهم حول القضايا الأساسية «الكلامية» (نسبة إلى علم الكلام) التي دار حولها النقاش بينهم. إن عرض المواقف المختلفة حول هذه القضايا سيمكننا، ليس فقط من التعرف على وجهات النظر التي كانت تتصارع في مجال رؤية العالم (الله، الطبيعة، الإنسان، والآخرة)، داخل علم الكلام والفلسفة في الإسلام، بل سيضع أمامنا قواعد منهجية وأخلاقية يقترحها ابن رشد كأساس للحوار المثمر؛ وهذا الجانب المنهجي، الأخلاقي، هو في الحقيقة، ما بقي ــ وسيبقى ــ حيا في هذا النقاش الكلامي الفلسفي المتشعب المترامي الأطراف. يمثل الغزالي هنا الموقف الأشعري، لكن فقط على مستوى الدفـاع بواسطة الهجوم. معنى ذلك أنه لا يعرض رأي الأشاعرة، في أية مسألة، عرضا مباشرا، بل يتجه بكل قواه نحو الرأي المخالف، رأي الخصم، يعرضه ويوضحه، ثم يأخذ في الاعتراض عليه، من داخل المذهب الأشعري، بقصد إبطاله أو بيان تناقضه وضعفه. لقد اختار الغزالي من إلهيات ابن سينا القضايا التي هي عماد المذهب الأشعري، يعرضها بأسلوبه هو - وهو أكثر وضوحا وبساطة من أسلوب ابن سينا! ومعلوم أن هذا الأخير لم يمارس التدريس قط، بينما مارسه الغزالي وتعوَّد على بيداغوجية التفهيم والبيان. لكنه، أعني الغزالي، في عرضه الواضح فعلا، لم يكن يتوخى بناء المعرفة، بل إظهار عجز الخصم عن بناء معرفة «يقينية» بالقضايا المطروحة. من هنا صيغة العناوين التي اختارها الغزالي للمسائل العشرين التي وضعها لفصول كتابه «تهافت الفلاسفة»، والتي استغنى عنها ابن رشد، أو أشار إليها مجرد إشارة، لينصرف إلى نص المتن. يتصدر هذه العناوين ثلاث عبارات على التناوب: «إبطال مذهبهم» (أو قولهم)، «بيان تلبيسهم»، «تعجيزهم». والضميـر «هم» يعود على «الفلاسفة»، وبالتحديد على ابن سينا. معنى ذلك أن هدف الغزالي، هدفه المباشر، هو إظهار «إلهيات» ابن سينا، التي قلنا عنها إن صاحبها أرادها أن تكون بديلا «برهانيا» لعلم الكلام الأشعري، بمظهر الدعاوى «الباطلة»، «العاجزة»، «الملبِّسة»؛ وبالتالي الدعاوى التي لا ترقى إلى مستوى «البديل» الذي يمكن أن يزحزح المذهب الأشعري من مكانه ومكانته. مثال من المسألة الأولى: القدم والحدوث أم الواجب والممكن؟ وهكذا ففي المسألة الأولى، وهي بعنوان: «إبطال قولهم بأزليـة العالم»، لا يصرح الغزالي برأي المذهب الأشعري وهو «حدوث العالم»، أو «الخلق مـن عدم»، بل يشرع في إيراد ما يعده أدلة «الفلاسفة» على «قدم العالم» أي أزليته. والحق أن القضية هنا معكوسة: ذلك أن «الفلاسفة»، وعلى رأسهم ابن سينا، لم يطرحوا المسألة على هذا الشكل. فالمنطلق عندهم هو بيان صعوبة التخلص من الإشكالات المنطقية التي تلازم القول بـ «حدوث العالم»، وهي الإشكالات التي لم تزدها نظرية الجوهر الفرد عند المتكلمين إلا تعقيدا. وفي مقدمة هذه الإشكالات، أن القول بأن العالم «حادث»، بالمعنى الذي يعطيه الأشعرية لـمفهوم «الحدوث»، (وهو أن الله كان منذ الأزل وحده، لا شيء معه، ثم شاءت إرادته أن يخلق العالم، فخلقه)، هذا القول يدفع إلى التساؤل: كيف نفهم أن الإرادة الإلهية شاءت، في وقت ما، خلق العالم؟ ما الذي جعل الإرادة الإلهية لا تخلق العالم قبل وقت خلقه أو بعده؟ هل يرجع ذلك إلى وجود «مُرجِّح» رجَّح عملية الخلق في وقت دون آخر؟ هذا لا يمكن! لأن فكرة «المرجح»، سواء كانت دافعا داخليا أو حافزا خارجيا، لا معنى لها بالنسبة إلى الله المنزه عن الوقوع تحت أي تأثير، مهما كان. ولتجاوز هذا الإشكال المنطقي سلك ابن سينا مسلكا اعتقد أنه سيقدم به بديلا عن نظرية الأشعرية، فقال: إن «الحدوث» بالمعنى الذي يفهمه المتكلمون لا يمكن البرهان عليه ولا تجنب مشكل «المرجح» فيه، ولذلك ينبغي التخلي عن مقولتي «الحدوث» و«القدم»، وهما مقولتان «كلاميتان»، أي من وضع المتكلمين، والنظر في الأمر من زاوية مقولتين فلسفيتين هما: «الممكن» و»الواجب»، وكان الفارابي قد وظفهما من قبل في هذا المجال، (وترجعان في الأصل إلى أرسطو الذي استعملهما كمقولتين منطقيتين). «الواجب»، عند الفارابي وابن سينا، هو ما إذا فُرض غير موجود لزم عنه محال، و«الممكن» هو الذي إذا فرض غير موجود لم يلزم عنه محال». «الواجب» هو واجب الوجود، و»الممكن» هو ممكن الوجود، وفي الوقت نفسه ليس مستحيل الوجود. وبما أن العالم موجود، ونحن نعيش فيه، وبما أنه عبارة عن سلسلة من الظواهر المتغيرة التي بعضها سبب لبعض، فإنه كـ «كل» لا يمكن أن يكون سبب وجوده، لأن «كل» العالم هو مجموع أجزائه، وهي جميعا معلولة لبعضها. إذن فوجود «العالم» بوصفه ممكنا، لا بد أن له علة (أو فاعلا) خارجه. ولا بد أن يكون هذا الفاعل غير مفتقر إلى علة، لأنه إن كان كذلك احتاج بدوره إلى علة، وبالتالي نقع إما في «التسلسل»، تسلسل العلل إلى مـا لا نهاية له، وهذا محال وغير معقول، وإما في «الدور»، كأن يكون الأول علة للثاني والثاني علة للثالث والثالث علة للأول! وهذا أيضا محال وغير معقول (عدم المعقولية هنا يرجع إلى إقصاء الفكر القديم لمفهوم «اللانهاية» لأن العقل لا يمسك بها). يبقى، إذن، أن يكون الفاعل للعالم، هو المقابل المنطقي لـ «ممكن الوجود»، أي «واجب الوجود» الذي وجوده من ذاته، أي جزء ماهيته (وابن سينا يقول ماهيته هي وجوده نفسه)، الذي متى فُرض غير موجود عَرَض عنه محال: وهذا المحال هو وجود العالم من غير موجِد، أو الوقوع في الدور أو التسلسل! من هنا أدخل ابن سينا مقولة ثالثة بين الممكن والواجب وهي ما دعاه بـ»الممكن بذاته الواجب بغيره». بمعنى أننا إذا نظرنا إلى العالم في ذاته، أي كما تجري الحوادث فيه، وجدناه ينتمي إلى «الممكن». لكن إذا نظرنا إليه من زاوية أنه «موجود» فعلا، وأنه لا يمكن الرجوع القهقري مع ظواهره بتعقبها كعلل ومعلولات بعضها لبعض، إلى ما لا نهاية له، فإننا مضطرون إلى النظر إليه بوصفه «واجب الوجود»، لكن لا بنفسه بل بغيره، أي بـ «واجب الوجود بذاته» الذي هو الله. وهكذا: فـ «العالم» بما أنه «ممكن بذاته» فهو حادث بالذات، أي معلول ومفعول. وبما أنه «واجب بغيره»، أي بواجب الوجود، وبما أن «واجب الوجود» لا أول لفعله - وإلا احتجنا إلى المرجح - فهو، أعني العالم، «قديم بالزمان». ويمثل ابن سينا لذاك بحركة الخاتم في الإصبع: فحركة الخاتم حادثة بالذات لأنها ليست من الخاتم نفسه بل هي تابعة لحركة الإصبع ومعلولة لها، لكنها قديمة بالزمان قدمَ حركة الإصبع نفسها، أي أنها مساوقة لها ولا يمكن أن تتخلف عنها. يحاول الغزالي في ردوده واعتراضاته حول هذه المسألة أن يبيـن أن هذا «التخريج» الذي قال به ابن سينا والذي تمدَّح به في وجه المتكلمين، لا يُثبت حدوث العالم، أي «الخلق من عدم» – وهو الركن الأساس في مذهب الأشعرية - بل هو تخريج يكرس القول بأزليته وقدمه: ذلك أن وصف العالم بـ «وجوب الوجود»، ولو «بغيره»، يعني أنه منذ أن كان هـذا «الغير» أي الله، والعالم موجود. ويجادل الغزالي في مسألة «المرجح»، التي هي نقطة الضعف الخطيرة في مقولة «الحدوث» عند المتكلمين، كما رأينا، ويقول بما يسمى عندهم «تراخي الإرادة»، بمعنى أن الله أراد منذ الأزل خلْقَ العالم : أي خلَقه بإرادة قديمة؛ وأراد منذ الأزل كذلك، أن يكون هذا الخلق في الوقت الذي اختارته هذه الإرادة. وخلاصة القول: إن ابن سينا اعتقد أنه حل مشكلة حدوث العالم بالقول بقيمة ثالثة بين الواجب والممكن, وهي ما دعاه «الممكن بذاته الواجب بغيره». رفض الغزالي هذا الحل وتمسك بمبدأ «حدوث العالم»، وللتغلب على مسألة المرجح قال: ليس ثمة مرجح جعل الله يخلق العالم في وقت معين، لا قبله ولا بعده، وإنما هناك «تراخي الإرادة»، كما ذكرنا؟ فما هو رأي ابن رشد في هذين «التخريجين»؟
إنشرها