البحث شرقا وجنوبا

البحث شرقا وجنوبا

> لقد مضى ألف عام منذ أن وصل الأتراك إلى الشرق الأوسط مهاجرين من آسيا الوسطى والأناضول. وحكموا أجزاء كبيرة من المنطقة لمدة خمسمائة عام. ولكن حين تلاشت الإمبراطورية العثمانية وتم تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، عزلوا أنفسهم تقريبا عن مناطق سيادتهم السابق، وتحولوا بدلا من ذلك إلى أوروبا ووقفوا إلى جانب أمريكا في حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي. وقد عاد الأتراك الآن إلى الشرق الأوسط، على شكل تجار ودبلوماسيين. وهذا التحرك طبيعي بالنظر إلى القرب الجغرافي وقوة الاقتصاد التركي وانتعاش الشعور الإسلامي في تركيا بعد عقود من العلمانية الإلزامية والإحباط من بطء محادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي. وفي الواقع، اتخذ هجوم تركيا على الشرق الأوسط حجم وزخم الغزو، وإن كان غزو سلمي. خلال السنوات السبع الماضية، زادت قيمة صادرات تركيا إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سبعة أضعاف تقريبا لتصل إلى 31 مليار دولار عام 2008. وتنتشر المنتجات التركية الآن، من السيارات إلى أدوات المائدة ومن التين المجفف إلى المسلسلات التلفزيونية، والتي لم تكن معروفة قبل عقد من الزمن، في الأسواق من الجزائر إلى طهران. ومن المتوقع أن تزيد أهمية تركيا، التي تعتبر بالفعل ممرا حيويا لإرسال الطاقة من الشرق إلى الغرب، مع تشغيل المزيد من خطوط الأنابيب. وأبرزها هو Nabucco، المخطط المقترح بقيمة 7.9 مليار يورو (11.7 مليار دولار) لنقل الغاز عبر تركيا من أذربيجان وربما تركمانستان وإيران والعراق ومصر. وقد أنهت شركة بناء تركية واحدة، هي TAV، صالة المطار في العاصمة المصرية، القاهرة، وتعمل على بناء صالات أخرى في ليبيا وقطر وتونس والإمارات. وقد حصد الأتراك المئات من عقود البنية التحتية في كردستان العراق، واستثمروا في مراكز التسوق والفنادق بل وحتى المدارس. وتعود تلك الإنجازات جزئيا إلى السعي النشيط للحصول على الامتيازات التجارية، مثل اتفاقيات التجارة الحرة التي وقعتها تركيا مع مصر وإسرائيل والمغرب وتونس. وهي تسعى إلى عقد صفقة مماثلة مع مجلس التعاون الخليجي المكون من ستة أعضاء، بما فيهم السعودية. وفي وقت سابق من هذا الشهر، سافرت مجموعات من الوزراء الأتراك إلى بغداد ودمشق لتوقيع مجموعة من 48 اتفاقية تعاون مع العراق و40 مع سوريا. وقد تنهي هذه الاتفاقات، التي تشمل كل شيء من السياحة إلى مكافحة الإرهاب والتدريبات العسكرية المشتركة، عقودا من التوتر بين تركيا ومقاطعاتها العثمانية السابقة. وقد لقي رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، استقبالا حارا في العاصمة الإيرانية، طهران، وهو انعكاس للسياسة الواقعية التي أبقت على العلاقات على الرغم من العزلة الدولية للجمهورية الإسلامية. ولا تطلب تركيا تأشيرات دخول من الإيرانيين، وقد هنأ أردوغان، الذي أكد على حق إيران بامتلاك الطاقة النووية لأغراض مدنية، الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، بعد فوزه المثير للجدل في الانتخابات في حزيران (يونيو). وقد حققت تركيا في الآونة الأخيرة تقدما تاريخيا كبيرا في العلاقات مع دولة مجاورة أخرى من الشرق، وهي أرمينيا. وإذا صادق البرلمان في الدولتين على هذه الخطوة، قد يتم استعادة العلاقات الدبلوماسية بعد 16 سنة من الجمود. ويتبع وزير الخارجية، Ahmet Davutoglu، بحماس هذه البراغماتية العملية، وهو أستاذ العلاقات الدولية الذي كان مستشارا لفترة طويلة لأردوغان قبل تعيينه في أيار (مايو). ودعا Davutoglu، الذي وصف الشرق الأوسط في كتاب له بأنها ''العمق الاستراتيجي لتركيا''، إلى سياسة ''القضاء على المشكلات مع الجيران''. وتسعى السياسة الجديدة، التي تعكس النزعة الإسلامية المعتدلة الحديثة لحزب العدالة والتنمية، الذي يحكم تركيا منذ عام 2002، إلى استخدام القوة الناعمة للتجارة، بالإضافة إلى العلاقات التاريخية، لنقل الاستقرار إلى ما وراء حدود تركيا. ويمثل هذا تحولا في النظرة العالمية. ففي الماضي، كانت تركيا تميل إلى النظر إلى نفسها باعتبارها حصنا شرقيا لحلف شمال الأطلسي، في حين كان يتم النظر إلى جيرانها في الشرق الأوسط بوصفهم تهديدات يجب احتواؤها. وأيا كانت قوى Davutoglu المقنعة، لم تكن إعادة التوجيه هذا لتحدث دون إحداث تغييرات جذرية في تركيا. فقد أسهمت الإصلاحات التي تم تنفيذها جزئيا لتلبية متطلبات عضوية الاتحاد الأوروبي في تحويل السلطة من الجنرالات المهووسين بالتهديدات إلى المؤسسات المدنية، وإلى نخبة مسلمة جديدة أكثر ثقة بنفسها راسخة الجذور في الأناضول بدلا من اسطنبول، العاصمة الثقافية والتجارية لتركيا التي تتميز بالطابع الغربي. وعكس حزب العدالة والتنمية أيضا مسار عقود من السياسة الرسمية عن طريق محاولة تلبية مطالب الأقلية الكردية الكبيرة في تركيا (نحو 14 مليون من مجموع عدد السكان البالغ 72 مليون). وساعد منح المزيد من الحقوق الثقافية والسياسة، والاعتراف بالتمييز الذي تمت ممارسته في الماضي، على تهدئة الغضب، ليس فقط بين الأكراد الأتراك، بل أيضا بين أقربائهم العراقيين في العراق وإيران وسوريا. إلا أن أحد أسباب نجاح النهج الأكثر لطفا وكياسة لتركيا هو أنه يحدث في سياق وجود فراغ السلطة الإقليمية. فلم تعد الدول العربية القوية مثل مصر والعراق تمارس نفوذا كبيرا. وتراجع كذلك النفوذ الأمريكي في أعقاب مشكلاتها في العراق. وفي الواقع، حدث أكبر تطور لتركيا في الرأي العام العربي عام 2003، حين رفض برلمانها الطلب الأمريكي بفتح الأراضي التركية لتكون جبهة ثانية لغزو العراق. وسمحت تركيا باستخدام قاعدة جوية لإمدادات الحرب، ولكنها تفادت الازدراء الذي انهال على الحلفاء العرب لأمريكا الذين قدموا، على مضض، الدعم من أجل إسقاط صدام حسين. وتم الترحيب بعودة تركيا أيضا لأن الكثير من العرب يعتبرونها قوة معتدلة موازنة لإيران ونافذة على الغرب. ولا يزال الشيعة العراقيون مثلا قلقين من التدخل الإيراني في العراق، على الرغم من أن الأحزاب الشيعية الرئيسية في العراق لديها علاقات وثيقة مع إيران. ورحب أكراد العراق أيضا، على الرغم من التوترات القديمة مع تركيا، بتحسين العلاقات بسبب ازدهار التجارة وبسبب خوفهم من العزلة بعد الرحيل الوشيك للأمريكيين الذين يحمون الأكراد. وفي الحقيقة، ليس هناك تقارب ثقافي كبير بين الحكومة العلمانية في سوريا، حليفة إيران، وبين الحكام الإسلاميين، مقارنة بالتقارب مع المسؤولين في حزب العدالة والتنمية الذين يبدون كرجال الأعمال. ويوفر تحسين العلاقات مع تركيا، التي تشمل الآن السفر دون تأشيرة، إغاثة تحتاج إليها سورية بشدة، المعزولة والمتخلفة دبلوماسيا واقتصاديا. وتحرص سورية في الواقع على جذب تركيا إلى درجة أنها ألغت عام 2005 مطالبتها بمقاطعة Hatay التي تم منحها لتركيا عام 1939 من قبل فرنسا، الدولة المستعمرة لسوريا في ذلك الوقت. إلا أن المسؤولين الأتراك يحرصون على توضيح أن اهتمامهم المتجدد في الشرق الإسلامي لا يعني فتورها تجاه الغرب. وبدلا من ذلك، يرسمون تركيا باعتبارها جسر مفيد، وقوة إقليمية للسلام، ونموذج الديمقراطية الذي يتوافق مع الإسلام. ويتفق حلفائها الغربيون بشكل عام معها في وجهة النظر هذه ولم يعارضوا تحول تركيا نحو الشرق. إلا أن مثل هذه اللامبالاة قد تتغير، إذا انتهت توقعات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو إذا اعتبرت تركيا أنها تقوض المحاولات الرامية للضغط على إيران. وقد كان بالفعل لهذا الترتيب الجديد لتركيا بعض التكاليف، خاصة فيما يتعلق بعلاقاتها مع إسرائيل. فقد ازدهرت هذه العلاقات في شراكة استراتيجية شاملة في التسعينيات، قبل بروز حزب العدالة والتنمية، حين كان يبدو السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ممكنا. وأسهمت المناورات العسكرية المشتركة ومبيعات الأسلحة الإسرائيلية في تقريب المؤسسات العسكرية للدولتين، في الوقت الذي توسعت فيه التجارة والسياحة بصورة سريعة، بل إن إسرائيل عرضت حماية تركيا من جماعات الضغط في الكونجرس الأمريكي التي تسعى لمعاقبة تركيا على تشكيكها في الإبادة الجماعية للأرمن في الأراضي العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. ## هل هي نهاية العلاقة؟ إلا أن العلاقات بدأت بالتوتر مع تحول الرأي العام التركي، الذي له أهمية أكبر الآن، بصورة متزايدة نحو العداء لإسرائيل. وشعر أردوغان، السياسي القوي المحنك، بالإهانة العام الماضي حين هاجمت إسرائيل غزة بعد أيام فقط من لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إيهود أولمرت، الذي طمأنه أنه سيتم استئناف محادثات السلام التي توسطت فيها تركيا بين إسرائيل وسورية. وأغضب سفك الدماء في غزة الكثير من الأتراك، الذين أشادوا بحماس بأردوغان حين انسحب بغضب من النقاش مع الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز، في دافوس في سويسرا في وقت سابق من هذا العام. وثار غضب الأتراك مرة أخرى في أيلول (سبتمبر)، حين رفضت إسرائيل السماح لـ Davutoglu بالعبور إلى غزة خلال زيارة له إلى إسرائيل. وفي وقت سابق من هذا الشهر، ألغت تركيا فجأة مناورات جوية مشتركة، بسبب فشل إسرائيل، كما قالت، في تسليم طلبية من الطائرات الآلية العسكرية. ومن جانبها، قدمت إسرائيل احتجاجا رسميا بسبب بث مسلسل على القناة التركية الرسمية يصور الجنود الإسرائيليين بوصفهم قتلة متوحشين. ويقول بعض المسؤولين الإسرائيليين إنهم يرون علامات على العداء للسامية تجعل تركيا غير مؤهلة للتوسط بعد الآن بين سوريا وإسرائيل. ورد المسؤولون الأتراك بالقول إنهم لا يعتزمون قطع العلاقات مع إسرائيل، ويعتقدون أنه لا يزال بوسعهم أن يكونوا محاورين مفيدين مع الدولة اليهودية. ولكنهم لا يزالون يشعرون بالسخط. ويقول أحد أعضاء حزب العدالة والتنمية: ''ربما فقدنا ميزتنا مع إسرائيل. ولكني أفضل أن أقف إلى جانب التاريخ، لما هو صحيح، للعدالة''. ويوضح أحد مستشاري أردوغان موقف تركيا بجرأة أكبر، في دلالة على تزايد ثقتها بنفسها بوصفها قائدة إقليمية، فهو يقول: ''نحن نكيف العلاقات مع إسرائيل وفقا لتقدم النزاع. وهذا ما يجب على الغرب فعله'' >
إنشرها

أضف تعليق