Author

خريف الفلسفة الإسلامية

|
ارتبط اسم الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل بقصة (حي بن يقظان)، وعاصر الفيلسوف المشهور (ابن رشد) الذي امتحن، ونال العذاب والنفي وسخط المجتمع ظلما، ومات بعد موت الفيلسوف (ابن باجة) الأندلسي بسبع وأربعين عاماً أي نحو نصف قرن. وهذه الكوكبة اللامعة من الفلاسفة الثلاثة يعتبرون منارات هدى، وشموع أضاءت خريف الحضارة الإسلامية في الجزيرة. ومسألة انبثاق الحضارة الغربية في بادوا في إيطاليا ترجع إلى فكر ابن رشد، الذي هز الدوغمائية، وأيقظ السبات العقلي، في الوقت الذي دلف فيه العالم الإسلامي إلى فراش النوم التاريخي وما زال. ويذهب الفيلسوف المصري (عبد الرحمن بدوي) إلى أن ما كتبه العرب هو الذي حفظ الفلسفة اليونانية. وهناك بعض النصوص التي كتبها الفيلسوف اليوناني (أرسطو) ضاعت في أصلها اليوناني وحفظت في الأصل العربي فقط. وأجمل ما في (ابن رشد) و(ابن طفيل) أنهما تعاصرا والذي قدم ابن رشد إلى الملك الموحدي أبو يعقوب، كان ابن طفيل، وطرح عليه الملك المثقف يومها مسائل في (الكوسمولوجيا) علم الكون فلم يتجرأ أن يصرح بأفكاره كثيرا، لمعرفته التامة بالوسط الدوغمائي المتشدد. ولكن الملك الموحدي فتح صدره للمعرفة بدون شروط وقيود، وطمأنه وبدأ يناقشه في بعض المسائل الفكرية؛ فأدرك ابن رشد وقتها أن الملك الموحدي قطع شوطاً في هذه العلوم، فلم يتحرج في مطارحته الأفكار، ونشأت بعد ذلك بين الرجلين صلة جيدة، ولكنها لم تعمر بسبب الوشاة والمحرضين ورسا مصير ابن رشد كما ينقل لنا التاريخ في قرية (الليسانة) اليهودية منفيا مشرداً محطم القلب. ولقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. وكان موت ابن رشد في عام 1198 م في حين مات ابن طفيل في عام 1185 م بعد قرن من سقوط العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة أي مدينة طليطلة (سقطت توليدو عام 1085م). أما ابن باجة فمات في عام 1138م، ومات الثلاثة في المغرب، في مؤشر واضح إلى بداية التقلص العربي من إسبانيا. ذلك أن معركة الزلاقة التي خاضها (ابن تاشفين) في عام 1086 م وهو في عمر الثمانين ضد الفونسو السادس حققت نصرا عسكريا ساحقاً، ولكنها لم تربح الحرب ضد معارك الاسترداد الإسبانية. وكان الفونسو السادس قد هرب أثناء النزاع على العرش فالتجأ إلى ملك طليطلة واسمها اليوم (توليدو) وعاش هناك لفترة فيما يشبه اللجوء السياسي، ولكنه اكتشف نقاط قوة المدينة، وأنا شخصياً لم أكن أتصور تحصين المدينة، عندما كنت أقرأ تاريخ الحواضر الأندلسية في الكتاب الرائع المكون من ستة مجلدات، بقلم عبد الله عنان، حتى زرت إسبانيا ومشيت في شوارع (توليدو) ورأيت بعيني نهر التاجة الذي يحيط بالمدينة مثل التاج على الرأس. وعندما طحن ابن تاشفين القوات الإسبانية على حدود البرتغال الحالية في معركة الزلاقة، واستدار حول مدينة طليطلة يتأملها أدرك تماماً أن استرداد المدينة شبه مستحيل، وهذا الذي كان فبعد سقوطها لم تعد إلى الأبد. وتلك الأيام نداولها بين الناس... كان مرض الانحطاط يؤتي أكله من تيبس المفاصل الإسلامية في الأندلس التي تحولت إلى مصطلح اليتيمة كما سماها ملوك المغرب. وفي هذه الظروف الحالكة من خريف الأندلس جاءت الفلسفة الإسلامية ناضجة كأحسن ما يكون مثل التين في الخريف ولكن لأناس فقدوا أسنانهم ومرضوا فلم يعودوا يشعرون بالماء القراح إلا أنه علقم مرير.
إنشرها