Author

خط أنابيب« نابوكو».. اللعبة الجيوسياسية الكبرى حول الطاقة

|

رئيس المعهد الدولي للطاقة والبئية والتوقعات الاستراتيجية

[email protected]

 

في منتصف الشهر السابع من عام 2009، أبرمت اتفاقية في العاصمة التركية أنقرة تمهد الطريق أمام إقامة مشروع خط أنابيب غاز ضخم لنقل الغاز من آسيا عبر الأراضي التركية في اتجاه دول الاتحاد الأوروبي ويصب في مستودعات كبيرة للتخزين تقع في بلدة حدودية داخل النمسا تسمى Baumgarten an der March، وشارك في التوقيع على هذه الاتفاقية إضافة إلى تركيا وأذربيجان، أربع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي: بلغاريا، رومانيا، المجر، النمسا، التي من المنتظر أن يمر بها الأنبوب، بحضور ألمانيا التي تشارك في تنفيذ المشروع، إلا أنها لم توقع على اتفاقية العبور كونها ليست بلد العبور، وبحضور رئيس المفوضية الأوروبية، جوزي مانويل باروسو وكذلك حضور المبعوث الخاص من قبل رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما لشؤون الطاقة في أوراسيا ريتشارد مورنينجستار، الذين شاركوا في فعاليات التوقيع على الاتفاقية، مؤكدين بعبارات لا تقبل الشك تبني حلف الأطلسي ودعمه السياسي والاستراتيجي لمشروع «نابوكو». ولتأكيد طابعه الجيوسياسي الأنجلوساكسون، وبالتحديد «الديني الجودي- كربستشان»، أطلق عليه تسمية «نابوكو»، تيمناً باسم مقطوعة موسيقية كلاسيكية أوروبية «أوبرا» حول التحرر من العبودية من تأليف المؤلف الرومانسي الإيطالي جيوسيبي فيردي في القرن التاسع عشر، وتستند أوبرا «نابوكو» إلى قصة وردت في التوراة وتناولت المآسي التي مر بها اليهود عبر التاريخ, خصوصاً ما مر به اليهود من اضطهاد ونفي على يد الملك نبوخذ نصر. ولقد جسد هذا المشروع منذ بدء التفكير فيه مشادة حادة بين نوعين متضادين من الاستراتيجيات الجيوسياسية الكبرى حول طاقة القوقاز ووسط آسيا تمخضت في نهاية المطاف عن التوقيع على أغرب اتفاقية دولية وقعت خلال العقد الأول من هذا القرن كما سنرى لاحقاً في هذا المقال، الذي سنحاول فيه تحليل هذا المشروع الغامض، وتحري بعض أبعاده الاستراتيجية ومحاولة فك رموزه. فكرة المشروع بدأت فكرة المشروع مع بداية هذا القرن، واتخذت أول خطوة عملية في بداية عام 2002 حينما وقع بروتوكول للاشتراك في المشروع بين كونسورتيوم من شركة أو إم في غاز النمساوية وبوتاش التركية و(إم أو إل) المجرية و(ترانس غاز) الرومانية و(بلغارغاز) البلغارية، وكان المشروع يهدف إلى ربط احتياطيات الغاز في آسيا الوسطى عبر بحر قزوين بأوروبا من خلال خط أنابيب يعبر بحر قزوين إلى أذربيجان ثم إلى النمسا، دون المرور بروسيا، أي أن مشروع «نابوكو» كان مخططا له أنه بإمكانه في نهاية الأمر أن يوصل الغاز الطبيعي مباشرة من وسط آسيا إلى وسط أوروبا، من دون أن يعبر روسيا، وبحسب دراسات المشروع في بداياته فهو يعتمد أساساً على تصدير الغاز الطبيعي من المزود تركمانستان، التي تملك رابع أكبر احتياطي غاز في العالم من خلال تمرير خط أنابيب عبر حوض قزوين يحمل غاز تركمانستان إلى أذربيجان دون المرور على الأراضي الروسية، ومنها إلى أرضروم في تركيا ثم سيمر ثلثا خط الأنابيب عبر أراضي تركيا ومن ثم يعبر بلغاريا ورومانيا ثم المجر إلى منتهاه في محطة تجميع ضخمة في مدينة Baumgarten an der March، في النمسا، وطول الأنبوب 2050 ميلا أو 3300 كيلو متر. إنه مشروع تحويل تجارة الغاز إذاً فمشروع نابوكو مشروع لتحويل تجارة الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى إلى أوروبا دون المرور بروسيا وبتأييد من المفوضية الأوروبية ودعمها المادي وذلك بمنحة مالية لتغطية نحو 50 في المائة من تكلفة إجراء دراسة الجدوى التي تشمل تحليلات للسوق ودراسات فنية واقتصادية ومالية، التي أشارت نتائجها التي صدرت في عام 2004 إلى جدوى المشروع من الناحيتين الفنية والاقتصادية، غير أن مشروع نابوكو لم بر النور وتم تعطيله وإرجاؤه فترة امتدت إلى تاريخ توقيعه في عام 2009م وذلك لأسباب عديدة، تأتي في مقدمتها لعبة المصالح الكبيرة بين الجغرافية والسياسة والطاقة. ولكن بعد أن أبرم الاتفاق بين دول العبور في أنقرة منتصف هذا الشهر، فمن المقرر البدء في مد خط «نابوكو» في العام الأول من العقد الثاني, أي2011، كما أنه من المقرر أن تصل طاقة ضخ الغاز في المشروع 31 مليار متر مكعب، أو بما يعادل 5 إلى 10 في المائة من استهلاك الغاز الإجمالي في الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2020، كون الاتحاد الأوروبي إحدى أكبر الأسواق استهلاكاً للغاز في العالم، ويبلغ استهلاك الاتحاد الأوروبي السنوي الحالي 600 مليار متر مكعب، ومتوقع أن يرتفع استهلاكه بنحو 200 مليار متر مكعب إضافي بحلول عام 2030. ومن المتوقع أن تبدأ أولى عمليات التسليم في عام 2014 بطاقة سنوية أولية تقدر بين ثمانية مليارات وعشرة مليارات متر مكعب. ويرأس مشروع أنبوب «نابوكو» راينهارد ميتشك، ولكن لم تتضح الصورة النهائية للإطار القانوني الخاص ببناء هذا الخط «نابوكو»، التي يبدو أنها ستستكمل في وقت لاحق باتفاقات منفصلة بين اتحاد نابوكو مع الدول الخمس المعنية بالمشروع. لعبة المصالح: الفعل ورد الفعل كما نوهنا سابقاً فإنه مع بداية القرن الحالي ولدت فكرة مشروع خط نابوكو العابر للقارات لنقل الغاز من أواسط آسيا إلى أواسط أوروبا وتفادي المرور بروسيا، والتفكير في تشييد هذا الخط كان مبنيا أساساً على استراتيجية حلف الناتو للاستمرار في تحرير جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة من الهيمنة الروسية, وبالخصوص على موارد تلك الجمهوريات وبكسر احتكار روسيا وسائل الإمدادات عن طريق مشروع خط الطاقة نابوكو، الذي بدوره سيقلص اعتماد الاتحاد الأوروبي على إمدادات الغاز الروسية. ولكن هيمنة روسيا السياسية والعسكرية والتجارية ووقوفها عائقاً لتلك الاتجاهات الأوروبية - الأمريكية من أجل تنفيذ فكرة هذا المشروع الذي كان معتمداً في بدايته على المزودين الأساسيين بضخ الغاز في خط الأنابيب من حقول الغاز في الدول من القوقاز ووسط آسيا، والالتفات حول روسيا و»تحريرهم» من مخالب الدب الروسي، وكذلك إلى الحد من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، او سيطرتها عليه، وهذا مما أثار حفيظة الدب المجروح - أي روسيا، التي تتربع على أكبر احتياطي للغاز في العالم وتسيطر على جميع خطوط الأنابيب العاملة التي تنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وأظهرت روسيا ممانعتها قولاً وفعلاً لذلك المشروع الذي اعتبرته يستهدف كيانها الإقليمي ومعادياً لها، وتبنت خطة استراتيجية دفاعية بثلاثة محاور وذات أبعاد ودوائر حلزونية تتقارب في المركز وتتباعد في زمنها التنفيذي وذلك لمجابهة مشروع نابوكو وتفريغه من جدواه من النواحي القانونية والاقتصادية والسياسيةً، على النحو التالي: المحور الأول: إثارة نزاع الملكية القانونية حول بحر قزوين اتبعت روسيا في تنفيذ استراتيجيتها محاور عدة وبدأتها بمحور ذي مردود فوري وهو إثارة جدل قانوني حول مسار الأنبوب، وإمداداته وذلك من أجل الإيقاف الفوري أو على الأقل تعطيل مشروع خط نابوكو، الذي كما نوهنا سابقاً كان في الأصل يعتمد على تصدير الغاز الطبيعي من رابع أكبر احتياطي غاز في العالم، تركمانستان، هذا المحور الروسي الاستراتيجي ركز على موقع تركمانستان الجغرافي المغلق إلا من خلال المنفذ الوحيد روسيا وإطلالتها على بحر قزوين المغلق ووجود أكبر حقول الغاز التركمانستاني بالقرب من ساحل بحر قزوين، فعلى الرغم من سيطرة روسيا العسكرية على البحر بكامله، إلا أنها تعي جداً خطورة التهديد العسكري الذي ربما يأتي بمردود سلبي أو حتى عكسي عليها إقليمياً ودولياً، وفضلت وفي خطوة ذكية جداً اللجوء إلى القانون الدولي وأثارت خلافا قانونيا حقيقيا يستعصي على الحل بين الدول المطلة على بحر قزوين. هذا الخلاف الذي أثارته روسيا هو ماهية الصفة القانونية للمسطح المائي لبحر قزوين في ظل القانون الدولي. ولإيضاح ذلك المبدأ، فإن القانون الدولي بشكل عام يفرق بين الصفة القانونية للمسطح المائي فيما لو كان بحرا فإن القانون الدولي يحدد حقوق معيته للدول المطلة عليه، وتختلف هذه الحقوق إذا كانت صفة المسطح المائي حوضا أي «بحيرة»، فإنه يترتب عليه حقوق تختلف للدول المطلة عليه: فالبحر تحت القانون الدولي يتم تقاسم مياهه وثرواته حسب طول شواطئ الدول المحيطة به، وجرفها القاري... إلخ، فيما إذا كان المسطح المائي حوضا أو بحيرة فإن الوضع القانوني للملكية يختلف حيث يتم تقاسم مياهه وثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به. وتأسيساً على ذلك المبدأ، أثارت روسيا موضوع الصفة القانونية لبحر قزوين وتبنت تعريف حوض قزوين على أنه بحيرة متجددة بمياه أنهار الفولجا وبناء على ذلك فالقانون الدولي يعطيها الحق بتقاسم مياهه وثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به كما ينص القانون الدولي على ذلك، هذا المحور من الاستراتيجية الروسية جعل من المستحيل، ليس فقط إنشاء خط أنابيب الغاز عبر حوض قزوين، بل حتى تطوير تركمانستان أو أذربيجان لأية حقول غاز على سواحل حوض قزوين في ظل هذا التعريف، إلى أن يتم الاعتراف به كبحر، وبالتالي فلا حق لأي دولة أخرى مطلة على البحر في حقول النفط والغاز على شواطئ الدول الأخرى المطلة على المسطح المائي. المحور الثاني: بناء قوة شراء وبيع احتكارية في قطاع الغاز محليا والتنسيق دوليا تزامناً مع تنفيذ المحور الأول من استراتيجيتها، سعت روسيا إلى تنفيذ المحور الثاني بشقيه الإقليمي والدولي وذلك في خطوات استباقية لمشروع نابوكو، وكان الشق الأول من المحور الثاني هو بناء قوة روسيا الاحتكارية في شراء كامل الغاز المنتج في أواسط آسيا وبالتالي احتكار بيعه عن طريقها وعبر أنابيبها العابرة للقارات، فإضافة إلى كونها تمتلك أكبر احتياطي للغاز في العالم حيث تمتلك 47 في المائة وتعتبر المنتج الأكبر لهذه السلعة الاستراتيجية (29 في المائة)، دخلت روسيا في عقود شراء غاز طويلة المدى من كل حكومات الدول المفترض منها ضخ الغاز في خط أنابيب نابوكو، كتركمانستان التي تنتج حالياً نحو 80 مليار متر مكعب سنوياً، وقامت روسيا بشراء أكثر من 50 مليار متر مكعب في عقود طويلة الأجل. كما دخلت بعقود شراء طويلة الأجل مع أوزبكستان التي لديها احتياطي قدره 1.8 مليار متر مكعب من الغاز، حيث قامت روسيا بشراء كامل إنتاجها من الغاز في عقد طويل الأجل ينتهي عام 2018، وفي ضوء ذلك انسحبت تلك الدول من أي تعهد لإمداد «نابوكو»، وأعلنت تركمانستان من جانبها أخيرا أنه حتى ولو بعد تطوير حقولها الغازية ووجود فائض في الغاز المنتج عن تلبية تعهداتها لروسيا والصين فلن تبيع الغاز لخط أنابيب نابوكو, كما أن أذربيجان التي يعول عليها كثيراً بعد انسحاب تركمانستان من إمداد النسبة الأكبر من الغاز المنقول إلى أوروبا، دخلت هي الأخرى في تعهدات مع روسيا بعقود بيع طويلة المدى، حيث وقعت روسيا معها في حزيران (يونيو) من هذه السنة، اتفاقاً لشراء حصة كبيرة من غازها، ولكنها أعلنت في الوقت نفسه أنها ستبيع الغاز لـ «نابوكو» إذا وجد فائضا لديها. إلا أن محدودية الغاز المتاح للتصدير لا يعول عليه مما زاد من الغموض في الجهة التي يعتمد عليها في ملء أنبوب غاز «نابوكو». أما الشق الثاني من هذا المحور الاستراتيجي فهو قيام روسيا بتوطيد علاقاتها مع الدول المالكة لثاني وثالث أكبر احتياطي في العالم، وتمخض عن تلك الجهود الروسية المدروسة بإنشاء منظمة للدول المصدرة للغاز بينها وإيران التي تملك ثاني أكبر احتياطي وقطر التي تملك أكبر حقل غاز في العالم، وتضم أراضيها كميات من الغاز تضعها في المركز الثالث من حيث الاحتياطيات العالمية بعد روسيا وإيران، إن خطوة إنشاء هذه المنظمة التي تضم أول وثاني وثالث أكبر احتياطي في العالم هي خطوة زادت من تقوية موقع روسيا على ساحة الطاقة الدولية ووسيلة جديدة في بسط نفوذها الدولي في مجال الغاز، وعلى الرغم من طمأنة الروس نظراءهم المستهلكين الأساسيين للغاز وعلى رأسهم الدول الأوروبية، إلا أن دول الاتحاد الأوروبي وكذلك الولايات المتحدة عبروا عن استيائهم من هذه الخطوة نظرا لتحكم روسيا من خلال هذا التجمع في مصيره وقراراته نظرا لامتلاك الروس الاحتياطي الأكبر لهذه السلعة الاستراتيجية في العالم (47 في المائة) وكذلك المنتج الأكبر لها، ولقد وافقت روسيا على أن تكون دوحة قطر مركزاً لهذه المنظمة في خطوة روسية تطمينية لأوروبا والولايات المتحدة. المحور الثالث: تكثيف الجهود لبناء خطوط غاز إضافية تمتلك روسيا حاليا جميع خطوط الأنابيب الغازية العابرة للحدود وصولاً إلى أوروبا، وتوجهت روسيا في هذا المحور الاستراتيجي إلى تكثيف الجهود لبناء خطوط غاز إضافية واستمالت بعض الدول الأوروبية للمشاركة في بناء خطوط غازية ضخمة كخط غاز الأنبوب الشمالي الموصل لأوروبا وكذلك خط غاز «الأنبوب الجنوبي» «ساوث ستريم» الذي يمر تحت مياه البحر الأسود، وصولاً إلى بلغاريا، ملتفا على أوكرانيا، وذلك بتكاليف إنشاءه تبلغ عشرة مليارات يورو (13.9 مليار دولار) تتقاسمها مع إيطاليا، ويمكن أن يكون جاهزا في 2015، أي في العام نفسه الذي من المفترض أن تنتهي أشغال إنشاء نابوكو. من هنا نرى أن الاستراتيجية الروسية بمحاورها وبأبعادها الثلاثة التي اعتمدتها روسيا للتصدي للمشروع الأوروبي الذي يستثنيها، نجح أولاً في إيقاف مشروع نابوكو ثم في تعطيله بسبب إثارة غموض يكتنف الجهة أو الجهات القادرة على ضح الغاز الطبيعي في أنبوب نابوكو، الذي هو في الأصل بناء خط أنابيب عبر بحر قزوين يحمل غاز تركمانستان، ولقد كان نجاح روسيا في استراتيجيتها بمحاورها الثلاثة تلك نجاحاً باهراً، وأيقنت بأنها أجهضت مشروع نابوكو ميتاً وجففت كل المصادر المحتملة لأي شكل من أشكال هذا المشروع، لما اتضح جلياً أنه ليس من العقل بناء أنبوب لنقل غاز لا يوجد له من يزوده أو يمده بالغاز أو حتى يقبل بحق المرور عبر الملك المشاع، ولم تتردد روسيا في المحافل الدولية بسخريتها من المشروع، والذي اعتبرته نزعة أو زوبعة موسيقية سياسية، وأنها ردت «نابوكو» إلى معناه الأصلي وأنه لا يتعدى كونه إنشادا فوضويا يؤديه الأوروبيون دعماً للمشروع ذكّره بالكورس الساحر في أوبرا نابوكو الذي يضم العبيد العبريين الحلوين، وفي الوقت نفسه مكتئبون ويائسون. #2# الهجوم الروسي ولكن روسيا اقترفت خطأ يكاد يكون مميتاً لاستراتيجيتها الدفاعية التي عملت عليها بجهد حثيث طوال السنوات السبع الماضية في التصدي لمشروع نابوكو حينما تمادت في غطرستها وأيقظت مخاوف الأوربيين والأمريكيين حينما عملت وعلى فترات زمنية متقطعة على قطع إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا، ما جعل نقل الغاز عبر مناطق أخرى غير روسيا من اهتمامات الاتحاد الأوروبي، وفي بداية هذا العام قامت روسيا بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا بسبب خلاف سياسي بين روسيا وأوكرانيا ما حرم المستهلكين الأوروبيين من إمدادات الغاز لمدة أسبوعين في فصل شتاء قارص جداً واجهت أوروبا خلاله مدناً ومنازل متجمدة، ما جعل المشروع أكثر إلحاحا ومخرجا للاتحاد الأوروبي الذي شعر بضغوط قوية من أجل التحرك باسم أعضائه، هذا الخطأ الفادح الذي اقترفته روسيا بقصد أو بغير قصد نتج عنه تأكيد لمخاوف الأوروبيين وكذلك الأمريكيين الذين دائماً يتهمون روسيا باستخدام مواردها من الطاقة بالتأثير في المستهلكين، واستخدام ورقة الغاز كيفما شاءوا لاستفزاز جيرانها في الساحة السوفياتية السابقة، الذي أثر أيضا وبشكل مباشر في أوروبا وشكل ضغوطا قوية على الاتحاد الأوروبي من أجل التحرك لاتخاذ خطوات عملية وبدأ الاتحاد الأوروبي ومعه الولايات المتحدة بلعبة المصالح الكبيرة بين الجغرافيا والاقتصاد والطاقة وذلك بإنعاش مشروع «نابوكو» وإعطائه دفعة معنوية قوية، وجعل تنفيذ فكرة مشروع نابوكو أكثر إلحاحا, ما أدى إلى ضخ ربع مليار دولار لتسريع الخطى نحو الانتهاء من أزمة التمويل للمشروع على أن يأتي مزيد في إطار حزمة تحفيز توزَّع في 2009 و2010.. وتم التوقيع على مشروع نابوكو أمام ذهول واندهاش العالم, خصوصاً روسيا التي فوجئت بتوقيع اتفاقية نابوكو الغريبة نوعاً ما، ليس فقط لأن نجاح نابوكو التجاري ضعيف ويعتمد على الدعم الحكومي للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. بل بالحالة الكوميدية المضحكة التي أفرزها نجاح الاستراتيجية الروسية التي تمثلت في عدم وجود مزود للغاز من جهة، ومن جهة أخرى يتم التوقيع على بناء أنابيب الغاز. إن غموض مصدر الغاز هو ما يميز مشروع خط أنابيب نابوكو وهو ما حدا بنا في أول المقال بوصفه أغرب وأهم اتفاقية دولية وقعت خلال العقد الأول من هذا القرن. فوجه الغرابة في مشروع خط أنابيب نابوكو هو عكسه أو قلبه للموازين والقواعد الاقتصادية الكلية، حيث إنه من المفترض أن تجد المادة المراد نقلها أولاً ثم تبدأ في إنشاء الوسيلة لنقلها. أي أنه يجب أن تجد الغاز المراد نقله أولاً، ثم تنشئ خط أنابيب غاز؛ هذه بديهة غيبتها الاستراتيحية الروسية عن مشروع خط أنابيب نابوكو ولكن على الرغم من ذلك إلا أنه تم التوقيع على الاتفاق على مشروع نابوكو عام 2009م الذي يقضي ببناء خط الأنابيب أولا، ثم البحث عن الغاز لاحقا. الاستراتيجية الأمريكية «الهجومية»: التوقيع على الاتفاقية ببناء خط الأنابيب أولا.. ثم البحث عن الغاز كما أسلفنا، تم الاتفاق والتوقيع على بناء خط غاز نابوكو ولكنه الآن يبدأ من أطرف نقطة شرقية على حدود تركيا الشرقية في مدينة أرضروم التركية مع أربع نقاط دخول بأبعاد واتجاهات مختلفة إلى تركيا ويستمر في مساره إلى النمسا عبر بلغاريا ورومانيا والمجر. وسنحاول هنا قراءة أبعاد الاستراتيجية التي تبناها حلف الناتو تلك، وتأثيراتها في المديين القصير والمتوسط، نظراً لأن نوعية الاستراتيجيات الأمريكية على وجه الخصوص تختلف عن مثيلاتها الروسية التي سبق التنويه عنها في هذا المقال، فليس للاستراتيجية الأمريكية في العادة البعد الزمني الطويل كما هي الحال مع روسيا أو حتى أوروبا، بل هي في أغلبية الأحيان ذات بعد قصير وعادة ما تفرز نتائج وظروفا يبنى عليها استراتيجيات مختلفة وبأبعاد أخرى قصيرة أو متوسطة. وتتجسد هذه النوعية من الاستراتيجيات في القول الأمريكي المأثور: (لقد اتخذت قراري فلا تشوش عقلي بالحقائق والوقائع) فلا (تدعنا نفكر كيف نعبر الجسر قبل الوصول إليه، أي حينما نصل الجسر، إذا كان هناك جسر، فسنفكر في كيفية العبور) I ALREADY MADE UP MY MINED! DONOT CONFUSE ME WITH FACTS,) Lets not think about how to cross the bridge before we reach it. إن إعادة إنعاش هذا المشروع وتبنيه يعد من جميع النواحي مغامرة سياسية أمريكية وبالطبع بتابعية أوروبية، وأمريكا تراهن على أن نابوكو هي ورقة رابحة في يد الأوربيين كرد حاسم على الاستراتيجية الروسية التي تنفرد بإمدادات الطاقة، وما عملته طوال السنوات الماضية لتفريغ نابوكو وسلبه من الضمانات الكافية لنجاحه من الإمداد والقدرات. لكن ما زال الوضع كما هو قبل التوقيع وبعد التوقيع على «نابوكو» وهو من أين سيأتي الغاز الذي سيملأ أنبوب نابوكو؟ وبأي حجم؟ ولأي مدة زمنية؟ وعلى الرغم من غياب تلك الحقائق وعدم يقينية المصدر، إلا أن مشروع نابوكو من وجهة نظر أمريكا والأوربيين ما زال يعد استراتيجيا مهما على صعيد مواجهة أمريكا مع روسيا وتحجيم مناورة روسيا إقليمياً، كما أن هذا المشروع الاستراتيجي يلبي رغبة الاتحاد الأوروبي في إسقاط ما يعدّه الأوروبيون ورقة مبيعات الغـاز من يد روسيا. هذه الاستراتيجية الأمريكية ـ الأوروبية تم إقرارها فعلياً بعد التوقيع على مشروع نابوكو وفيما يبدو أنها ترتكز على عدة محاور يأتي في مقدمتها: 1- مجانية الاتفاقية: إن التوقيع على اتفاقية نابوكو في حد ذاته مجرد اتفاق بين الأطراف الذين يمثلون دول العبور بالسماح لذلك الأنبوب بالمرور عبر أراضيها فقط, ولكنها في الوقت نفسه تمنح أكثر من ميزة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية من هذه الاتفاقية، فهي على المدى القريب توحي بأن لدى أوروبا وأعضاء «الناتو» خطة واضحة حول استراتيجية مشتركة بخصوص الطاقة، وأن خط أنابيب نابوكو عامل محفز لاستراتيجية أمن الطاقة في أوروبا، على الرغم من أنها في حاجة إلى تحديد التفاصيل. 2- إغراء دول منطقة آسيا الوسطى والقوقاز بالتمرد على روسيا: إن إنعاش الاتفاقية والتوقيع عليها في حد ذاته وسيلة لاستقطاب عدد أكبر من بلدان منطقة آسيا الوسطى والقوقاز وإغرائها بربطها عبر هذا الخط بمصالح اقتصادية مشتركة مع الغرب، وهذا واضح في تصريح رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان خلال احتفال توقيع الاتفاقية حينما قال: «كلما اتخذنا خطوات أكثر (باتجاه تنفيذ المشروع)، ازداد اهتمام الدول المزودة (للاتحاد الأوروبي) بالغاز». 3- أداة ضغط سياسية مفيدة: إن من شأن الشروع بجدية في مد خط أنبوب لا يمر بروسيا وعلى المدى القريب ربما يشكل أداة سياسية استراتيجية مفيدة بقدر ما يمكن أن يكون مصدرا للطاقة بخصوص التعامل مع روسيا، وفي إرغام أوكرانيا وروسيا على تسوية نزاعاتهما وعدم اللجوء إلى قطع الإمدادات عن أوروبا، أو حتى حث روسيا على بناء خطوط غاز أخرى لتلبية حاجات أوروبا المتزايدة من الطاقة. 4 ـ تعزيز المصالح التجارية وتعددها: إن التوقيع على هذا المشروع سيستميل أهم دولة آسيوية لأوروبا والولايات المتحدة وعضو في حلف الناتو وهي تركيا، التي ترى أن هذا الأنبوب الذي سيكون أكثر من ثلثي طوله في تركيا، سيعزز من دورها الأوروبي وقبولها لدى الاتحاد كما هي رغبة الولايات المتحدة كذلك، وأن تركيا في حالة نجاح المشروع ستجني مبلغاً كبيراً من خلال مرور ذلك الأنبوب «نابوكو»، أي نحو 630 مليون دولار كرسوم عبور سنوية كما أنه سيمكنها، في حال ملئه بالغاز، شراء حاجاتها من ذلك الغاز بسعر مخفَّض. ولكن أهم من كل هذا هو تقديم تركيا نفسها على أنها لاعب أساسي في مسار خط أنابيب «نابوكو»، وميزة تركيا هي موقعها بجوار نحو 70 في المائة من الاحتياطيات المعروفة في العالم من النفط والغاز في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه تقع بجوار واحدة من أكبر المناطق المستهلكة في العالم وهي أوروبا. وأمل تركيا هو الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وتوقعها بأن يعمل مشروع نابوكو على ترسيخ مكانتها أوروبيا من خلال العمل على أن تكون مركزا للطاقة بالنسبة إلى الغرب، حيث إن خط نابوكو سينضم إلى عدد آخر من خطوط أنابيب الغاز التي تمر عبر تركيا. والمتتبع للمساعي التي تبذلها تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يرى أن مشروع نابوكو يصب في جهد تركيا الحثيث لتقييم أهليتها للعضوية واجتيازها العقبات الـ 35 بفصولها المتعددة التي وضعت أمام تركيا للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي منذ أن أطلق الاتحاد الأوروبي المفاوضات لعملية انضمام تركيا إلى الاتحاد عام 2005 والتي ليست مضمونة عند انتهاء العملية التي قد تستغرق حتى عام 2015 على الأقل، نظراً لعرقلة كل من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية وكذلك المستشار النمساوي ومعارضتهم العلنية انضمام تركيا إلى الاتحاد بسبب خلفيتها الحضارية الإسلامية وتعدادها السكاني الكبير وفقرها النسبي، مفضلين في ذلك أن تمنح تركيا شكلا من أشكال العلاقة الخاصة التي لا ترقى إلى العضوية الكاملة. وتوجه تركيا في هذا النهج من خلال مشروع نابوكو يؤكده تصريح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يوم التوقيع على الاتفاقية حينما قال: «حتى إن قمتم بتقييم من ناحية الطاقة فحسب، يتضح أنه ينبغي أن تكون تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي». ويأتي تبني تركيا هذا المشروع بهذا الحماس منقطع النظير والذي وقع عليه دول العبور كالنمسا، إضافة إلى ألمانيا بوصفها شريكاً في هذا المشروع، حيث إن دولتين أوروبيتين من الدول الثلاث المعارضة لانضمام تركيا شاركتا في المشروع الذي سيبدأ الإمدادات عام 2014، أي قبل الموعد المأمول لانضمام تركيا إلى الاتحاد بعام واحد فقط، والذي سيحتم على كل من النمسا وألمانيا إسقاط اعتراضهما على قبول تركيا لعضوية الاتحاد، وبقيت فقط فرنسا ورئيسها ساركوزي الذي لا يزال معارضاً دخول تركيا في الاتحاد حيث أكد في مقابلة له مع صحيفة ألمانية Bild am Sonntag: ومتوجهاً لألمانيا والنمسا بعد التوقيع على نابوكو: دعونا نكفّ عن قطع الوعود الفارغة إلى تركيا. أنقرة تعي تماماً هذه الحقائق القاسية، لكن في هذا الوقت، يمدها نابوكو بشعور بالسعادة باعتبار أن تركيا أصبحت تقريباً جزءاً من أوروبا ويعتبر ذلك نجاحاً باهراً لتركيا حيث إنها كسبت ثلثي المعارضين لقبولها في عضوية الاتحاد المأمولة. 5 ـ إملاء الشروط من موقف القوي: وهذا يتضح من الدعوة الأمريكية لروسيا بعد توقيع اتفاقية نابوكو، وذلك بـ «سماح» أمريكا لروسيا بتزويد خط أنابيب نابوكو بالغاز ولكن بشرط قبول البلدان المشاركة في المشروع كشريكة؛ وإعطاء انطباع بأن الأوروبيين والأمريكيين لا يزالون متمسكين بزمام الأمور, وبالتالي محاولة إسقاط ورقة ضغط رئيسة دأبت موسكو على استخدامها في تعاملها مع الدول الأوروبية. .. ولكن أين مربط الفرس في الاستراتيجية الأمريكية؟ في ظل حيرة الخبراء من اتفاقية نابوكو بدأت التكهنات التي من شأنها أن تزيد احتمال نجاح نابوكو تجارياً. ويرى كثير أن المصدر المزود لهذا الأنبوب سيأتي ربما من مصر والعراق، ولكن حتى هذا التخمين غير صحيح، فكل ما تمتلكه مصر من احتياطي غاز قدره 1.6 مليار متر مكعب حسب إحصائيات عام 2006. كما أن إنتاجها كاملا مباع مقدماً لسنوات طويلة للكيان الصهيوني ولمشاريع الإسالة. ولا يتبقى شيء منه لإمداد خط نابوكو، ولو افترضنا جدلاً أن لديها فائضا قليلاً عن التزاماتها تجاه الكيان، فقلة هذا الفائض - إن وجدت - لا تبرر، على الأقل اقتصاديا، تكلفة مد خط أنابيب إضافي من ميناء عسقلان إلى ميناء شيخان التركي، كما أن إنتاج مصر كاملا ولو تضاعف مثلاً، ولو كان جدلاً مخصصاً لمشروع نابوكو، فليس مبرراً لإنشاء خط ذي السعة البالغة 31 مليار متر مكعب في السنة. أما العراق فهو الآخر غير مؤهل بأن يكون المزود لهذا الأنبوب فلقد أعلن قبل أسبوعين من تاريخ اتفاقية نابوكو أن كمية الغاز التي ستنتجها كردستان هي 1.5 مليار قدم وربما ترتفع إلى الضعف بحلول عام 2014م أي عند بدء عمل نابوكو. من هنا نرى أن مربط الفرس هو الخليج العربي المؤهل لتزويد الغاز الكافي لـ «نابوكو»، ومن إيران على وجه الخصوص، وعلى الرغم من تأكيدات الولايات المتحدة معارضة واشنطن استعمال الغاز الإيراني في نابوكو، إلا أن المواقف السياسية مهما بلغت عدائيتها فإنها تتبدل، وتبقى مصالح الشعوب هي الحكم في العلاقات وتبادل المنافع. وهذا ما هو واضح في الأبعاد والاتجاهات في سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة, وكذلك اتضح جلياً أثناء الانتخابات الإيرانية. فمن الواضح أن أوروبا ومعها أمريكا تراهن على تعاون إيران أكثر من مراهنتها على تعاون روسيا في هذا المجال. كما أن إيران تمثل البلد المثالي لمشروع نابوكو، فإضافة إلى امتلاكها احتياطيات غازية ونفطية هائلة وصاحبة ثاني أكبر احتياطي بعد روسيا، فإنها معبر مثالي لنقل الغاز التركماني إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الإيرانية الموجودة إلى تركيا ومن دون إثارة النزاعات القانونية الدولية التي إثارتها روسيا حول بحر قزوين. كما أن إيران ستكون مثالية لعبور غاز قطر أيضاً لأنبوب نابوكو. إذاً فإيران هي المحطة المثالية لتلقي ثالث ورابع أكبر الدول المنتجة للغاز في العالم، ومحطة تصدير الغاز منها كثاني دولة ومن قطر كثالث دولة ومن تركمانستان كرابع أكبر الدول المنتجة للغاز في العالم. وفي الوقت نفسه لا شك في أن إيران تعد خط غاز «نابوكو» وسيلة مثالية للدخول في شراكة استراتيجية حقيقية مع أوروبا وكسر الحصار الذي فرضه الغرب على اقتصاداتها. ويبدو أن هنالك تلميحات في هذا الشأن من قبل الولايات المتحدة بعدم بقبول إيران في مشروع نابوكو إلى أن ((تغيّر طهران سياساتها)) وتطبيع العلاقات بين واشنطن وطهران، وهو أمر محتمل أثناء الإدارة الأمريكية الجديدة التي تدعو للحوار. وفي ختام هذا المقال فإن معيار نجاح نابوكو من عدمه يعتمد بشكل أساسي في مشاركة إيران في «نابوكو». وعلى الرغم من أن روسيا تفضل أن تركز إيران على تسويق منتجاتها في السوق الآسيوية كالهند والصين، وإبقائها بعيدة عن سوق الغاز الأوروبية، إلا أن إيران تجد منافسين لها في السوق الآسيوية، وتبقى لها السوق الأوروبية المتعطشة للإمدادات الإيرانية، ورغبة إيران الملحة في المشاركة الاستراتيجية مع أوروبا، هذا ما سنراه من كثب في الأسابيع والأشهر المقبلة.
إنشرها