Author

يا طارق، نعم.. عندي لكَ قصة!

|
.. سألني الأستاذُ الأديبُ طارق العريفي من البحرين رأيي في سلسلةٍ مشهورة بعنوان: «حساءُ الدجاج المفضل للروح النسائية Chicken soup for the women>s soul إن كنتُ قرأتها. وقرأتُ بالفعل معظم سلسلة هذه الكتب ذات الشعبيةِ الجارفة، وهي قصصٌ إنسانية كتبها ناسٌ عاديون ثم جُمعت في كتبٍ وصُنفت: للروح النسائيةِ، ولروح الأبوة والأمومةِ، وروح للمغامرة، والبقاء وغيره. وهي قصصٌ مؤثرة وجدانياً، واستعارتْ من قصصها كثيرٌ من الدوريات الكبرى مثل «الريدرز دايجست»، والرسائلُ المتبادلة بالإنترنت وغيرها. والسيد العريفي طلب مني طلباً ذكياً، ويدل على «روحٍ» ممزوجةٍ بالعرفان الإنساني للبطولات الفردية النسائية، لأنه يقول: «في حاضرنا وتاريخنا نساءٌ أنجزنَ أروعَ قصصِ التضحيةِ ولم تـُكتب لأنهنّ لم يفكرن في كتابتها». وفاجأني بأن أختار بطلةً أكتب عنها لتتكوَّن - حسب ما يأمل - أولَ نواةٍ لكتابٍ مماثلٍ لبطولاتٍ نسائيةٍ عربيةٍ تاريخيةٍ أو حاضرةٍ مغمورة. وأضم صوتي للأستاذ النابه «طارق العريفي»، وأود لو تأخذ كل قارئةٍ وقارئٍ ورقة وقلما للكتابة عن قصصٍ مؤثرة إنسانيا حصلت لهم، أو لمن يعرفون، أو سمعوا عنها.. وباعتقادي أنها ستكون بمثابةٍ شلالاتٍ جاذبةٍ للإعجابِ والاقتداء، أقوى من كل النصائح والمواعظ المباشرة لو جُمِعَتْ يوماً ليصدر أولُ كتابٍ عربي بقصص إنسانيةٍ أخّاذةٍ تعبرُ عن الروح الشجاعةِ عند النساءِ، والرجالِ، والشبابِ، أو عن المغامرةِ، أو الإيمان .. ثم يتدفـَّقُ النهر. وأختارُ اليوم تلبيةً لطلبِ صديقنا طارق قصةَ بطولةٍ حقيقيةٍ، ويقيني أنها تفوقُ بطولاتِ النساءِ في التاريخ العالمي المعروف. إنها البطلةُ المصابرةُ القويةُ التي لا تعرف إلا الثبات، ذات النطاقين، أسماء بنت أبي بكر. أسماءُ هي بطلتي الأولى من طفولتي الباكرة وما زالت! البطولة ُوأسماء اتحادٌ لا ينفصم. تعرفون أن أسماءَ كانت الفدائية الأولى في الإسلام، الفدائية العربية الأولى (هذا قبل أن يُغيَّر المسمى ليكون الفِداءُ إرهاباً!) عاشتْ في حادثِ الهجرة الكبرى التي تمخضّتْ فيما بعد عن أكبر فاصلٍ تاريخي غيّرَ وجهَ المسيرة الإنسانية. وقصتها معروفة عند معظم من قرأ وطالع التاريخَ الإسلامي. كانت بشجاعةٍ منقطعةٍ ونادرة تنقل الطعامَ والشراب للمهاجـِرَيـْن العظيمَيْن.. غير أن هناك مهمة كُبرى قليلا ما تـُروى، قد لا تكون بأهميةِ الطعام والشراب، ولكنها تتطلب جسارةً أشد، وشجاعة قلبٍ قـُدَّ من حديد.. ومن نفسٍ لا يطوفُ بها الخوفُ. كانت في ذلك الوقت صغيرة السن بشجاعةٍ تزن الجبالَ، وبإصرارٍ يفوق إرادة جيش.. فأدّتْ دوراً رائعا، ودقيقاً، وحَرِجاً وخطِراً، وهو أن تكون «عيْنُ» النبيِّ الكريم بين أوساط كفار قريش، وهو دورٌ إيجابي تحتاج إليه أي حركةٍ في التاريخ، ويسجل مؤرخو الثورات الكبرى أن العيونَ كانتْ أول أركان تصاعد الثورات ونجاحها. وكانت أسماءُ تؤدي مهمةً ترصدية ( تجسّسية إن شئت) من نوعين. نوعٌ صعبٌ، وهو تلقـّط الأنباءِ من تجمعات ومجالس وندواتِ مكة، ونوعٌ أعقد صعوبة، هو ما يسمى الآن بالتجسّس المضاد، فقد أوكلت لنفسِها مهمةَ كشف العيون التي بثتها قريش الحانقة لتترصد المهاجرَيْن العظيمَيْن اللذيْن هاجرا بأغلى معتقدٍ على الأرض. وبينما كانت تؤدي ذلك وحيدةً، معزولةً، يافعةً، مجازفةً بحياتِها .. كانت قريشُ قد عيّنَتْ عيوناً من أذكى المهاراتِ الراصدة، ووعدتهم بالمكافآتِ الفخمةِ إن أتوا بخبرٍ عنهما، أو أتوا بهما ميتـَيـْن، أو على قيدِ الحياة.. ونجحتْ البنتُ الصغيرة نجاحاً مذهلاً في إرباكِ مدينةٍ كاملةٍ بكبار رجالاتها، وسعَتْ في نقل الأخبار لمقرّ القيادة بمهارةِ وشجاعةٍ وحصافة. .. إلى أن شكـَّتْ قريشُ يوماً بكثرة تكرار خروجها. دارت الشكوكُ حول تعدد خروج البنت الصغيرة أسماء، واستنتجَتْ قريشُ أن وراء البنتِ سراً تبالغ في إخفائه. ربما يكون السرُّ الذي أرهقهم البحثُ عنه، وهو مكان الرجلين العظيمين، الرسولُ الكريم وصاحبه أبو بكر.. وبينا هي يوما تقتربُ للغار محمّلةً بالطعام والأخبارِ للنبي الكريم وصاحبه، إذْ يدهمها رأسُ الشرِّ، وداهيةُ الظلم، ورافعُ لواء الحِقدِ على الدين البازغ، أبو لهب. واعتقـَدَ الجبَّارُ أن البنتَ الضعيفةَ ستطيرُ نفسَها جزعاً وتصبَ كل معلوماتِها.. على أن ثباتها الراسخ فاجأ الظالمَ، ثباتُ بنتٍ صغيرةٍ تقع في الصحراءِ عزلاء بين رهطٍ من أغلظِ الرجال.. لقد تميز أبو لهبٍ غيظاً، وطارَتْ كل محاولاته عبثاً في إخراج كلمة واحدةٍ من الفم الصغير، حتى جُنَ غضَباً، وهبطَتْ يدُه الآثمةُ بلطمةٍ تصدع الصخرَ على الصِدْغِ الصغير، فداختْ وتمزقتْ أذنُها وسقط قرطُها، ولكن.. لم تنطق بكلمة، وإنما البكاءُ من هولِ الألم. تلكَ البنت الصغيرةُ مكـَّنها الله ُ من حمايةِ أعظم الرجالِ قاطبةً، وحماية أعظم الأديانِ قاطبة. هذه قصَّتي لكَ يا طارق، كي تكونَ الأولى.
إنشرها