Author

أثر فقد العلماء والشيخ الجبرين

|
لا ريب أن موت العلماء والذين لهم هذه المنزلة العظيمة يؤثر في الناس بما لا يؤثر غيره، وذلك لأن موتهم يعني فقد الهداية والدلالة إلى الخير الذي حملهم الله بيانه وتبليغه للناس. وقد فسر العلماء قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) «الرعد:41» بأنه خراب الأرض وقلة بركاتها؛ وذلك بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها، وقد تلقى العلماء هذا التفسير بالقبول كما ذكر ذلك الحافظ أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله - . ويؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري فدلَّ هذا على أن ذهاب العلم يكون بذهاب العلماء. وقال: فيه من الفوائد: حض أهل العلم وطلبته على أخذ بعضهم عن بعض، وفيه شهادة بعضهم لبعض بالحفظ والفضل، وفيه حض العالم طالبه على الأخذ عن غيره ليستفيد ما ليس عنده. انتهى. قال ابن مسعود - رضي الله - عنه يوم مات عمر: إني لأحسب تسعة أعشار العلم اليوم قد ذهب. وقيل لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس: قال: إذا هلك علماؤهم. ونقل عن علي وابن مسعود وغيرِهما قولهم: موت العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار. وقال سفيان بن عيينة : وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم. الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالمٌ منها يمت طرفُ كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها وإن أبى، عاد في أكنافها التلف إلى غير ذلك من النقول والآثار التي تبين الأثر الكبير الناشئ عن موت العلماء. وهذا لا يعني القنوط والتشاؤم والتطير، فقد مات من قبل سيد العلماء وإمام الأتقياء محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده صحابته النجباء وأتباعهم النبلاء، ولم يزل دين الله باقياً ظاهراً، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ـ بإذنه تعالى ـ، ولكن المقصود هو بيان مكانة العلماء في الأمة وأن يعرف الناس منزلتهم عند الله وعند رسوله، وأن الخير قريب منهم ما بقوا بينهم، ليستفيدوا من هديهم وينهلوا من علمهم وينزلوهم المنزلة اللائقة بهم من التقدير والتكريم والرجوع إليهم فيما يشكل عليهم، وأن يعلموا أنهم آمنةٌ لهم ـ بإذن الله تعالى. أخلاقه وسجاياه وقد فجعنا هذا الأسبوع بوفاة شيخنا عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين ـ رحمه الله واسكنه فسيح جناته ـ ولعلي أذكر بعضا من أخلاقه وسجاياه: تميز شيخنا ـ رحمه الله ـ بدماثة الأخلاق ولطف المعاشرة والكرم والجود والإحسان إلى الناس. وبسط الشيخ نفسه للمساكين والمحتاجين والمعسرين وبذل لهم جاهه في الشفاعة وقضاء مصالحهم. ومن جالس الشيخ وخالطه تبين له تواضعه الجم وزهده وبعده عن التكلف وعن زخارف الدنيا. والشيخ - رحمه الله - من نوادر الحفاظ ومتقنيهم للمتون العلمية وجرد المطولات حتى أثناء انشغاله وكبر سنه. ونفع الله به طلاب العلم بكثرة دروسه وإتقانه وإقامته للدورات العلمية في أنحاء السعودية، وهو آية في صبره على إلقاء الدروس وتتابعها، وربما حضرنا له في بعض الأيام درساً بعد الفجر ودرساً بعد المغرب وآخر بعد العشاء ثم درساً آخر من فجر الغد وهكذا وذلك إبان توليه الإفتاء برئاسة البحوث العلمية والإفتاء. وكان للشيخ ما يقارب 13 درسًا في الأسبوع تزيد وتنقص بحسب المواسم والأحوال، وقد فرِّغ وطبع عدد منها. اللهم اغفر لشيخنا ابن جبرين وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره ونور له فيه. اللهم واجزه خير ما جزيت عبادك الصالحين المصلحين، وأنزله الفردوس الأعلى من الجنة، وأخلف على الأمة فيه خيراً، و(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
إنشرها