Author

فلا عجبَ إذا مَصّوا الدماءَ

|
.. كان الطبيبُ الشابُ في المستشفى الفخم، يحاول جاهداً أن ينهي إعداد وقراءة تقريره الطبي عن طريق الشبكة الإلكترونية.. ثمّ امتقع وجهُه، وتضافر حاجباه مع خطوط الجبهةِ لرسم الشعور المُحبَط المغلف، ويتطلع إلي وأنا في عيادته بحرج، والعرق يفصدُ من وجهه، لأن الجهازَ الطرفي لديه أبطأ من سلحفاة بلا لياقة.. ثم انفجر بالشكوى. ويقول الطبيبُ إنهم تقدموا برسالة احتجاج على بطء الشبكة، ولكن إدارة المستشفى لم تقبل الاعتراض وواجهتهم بالإعماء.. وكأن الإعتامَ صار ديدنا وعرفا في الأجهزة الرسمية، مما ذكرني بالفيلسوف العظيم الاسكتلندي "دافيد هيوم" الذي بحث كثيرا في المسائل الأخلاقية، وأن يعيد الإنسانُ فردا وجماعة تبرير الأخلاق أمام تعريفا معنى المصلحة في النفوس حتى تكون الأخلاق هي المتعارف عليه وليست المقبول، وبقي سؤالُ "هيوم" من أكثر الأسئلة الفلسفية الأخلاقية التي واجهت الأخلاق أمام المبادئ، والأخلاق أمام المصلحة، والأخلاق أمام المتعارف عليه .. أي القانون غير المكتوب. وأظن أن من منطلق هذا الشرح الهيومي شاعت فكرة التعتيم، ولذا انتفض العالمُ الجديد أمام الإعتام والإخفاء والسرية، وفي الأزمان الحديثة شاعت المطالبة بالمكاشفة، ثم سُميت بالاتفاق الأرضي العام، بالشفافية.. وكلّ ما يُغطى بالطبيعةِ يوحي لشيءٍ ما يدور، وهذا الشيءُ غامض، والغموضُ عند من لا يعلمون هو الخطر، الغموضُ بحدّ ذاته حفرة في طريق مظلم أمام رجلٍ أعشى .. وبما أنه خطر فهو فاسد، وبما أنه فاسد فهي عقول شريرة تدبّرُ أمراً شريراً في الخفاء، ولأن الشرَّ والفسادَ لا يحبان الضوء والفضحَ، فكان الإعتامُ من لزوم ما يلزم. صحيح أن الإخفاءَ (قد) يحمل نوايا طيبة، ولكن في العمل الذي تقدمه لي ولغيري من حقي أن أعلم، ومتى استفردتَ بالمعلومات فقد بدأت ترسل الشيطانَ بمعرفتك وإرادتك ليعشش في عقلي.. فمن المُلام؟ وهل يُحارب الفسادُ؟ كل شيءٍ حسب منطق محرّكات الحياة الزمنية والظرفية والموضوعية يخضع لحالات الحرب والمواجهة، ويفوز هذا، ويخسر ذاك، ثم تنقلب الأطرافُ والصفات بتوالياتٍ دهرية، والغريب أن كلا العدوين سيبقيان ما بقيت الأرض، ومهما تكاثرت الحروب، والعبرة ليست في البقاء ولكن في مدة البقاء وعمق تجذره وثقل تحكمه.. وهذا ما كان يركز عليه سمو الأمير تركي بن عبد الله بن عبد الرحمن يوم اجتمعنا في بيته، رئيس تحرير هذه الجريدة، وأنا. لقد كان يتكلم بواقعيةِ المحنكين، ولا أدري إن كان يشير إلى الآلية الفلسفية الأخلاقية لدى دايفد هيوم، ولكنه اعترف "بشفافية" أن الفسادَ قد أرخى مرساته عندنا، كما في بلدان أخرى، وأن التخلصَ منه ومقاومته مثل فرسان القرون الوسطى هي نوع من الحرب الدونكيخوتية، محاربة طواحين الهواء. وكان البديلُ طريقة أسميها بطريقة الدهاء الطيب.. شارك الأميرُ مع فضلاء، في توليد فلسفة جديدة تحت مظلة سعفة القدوة الحسنة، وهي مؤسسة من الطيبين الذين لا يستخدمون أصابعَ الاتهام والتهديد أبدا، الطيبون الذين لا يطلون بعيونهم باتساع حدقاتها وراء أكتاف الآخرين، الطيبون الذين لا يحاسبون أحداً.. ولكنهم الدهاة الذين يكافئون، وهم لا يكافئون ملائكة أو أولياء الطهر العملي، فلا كمال على الأرض، وفولتير الفرنسي (الداهية الآخر) هو الذي قال من عيب الكمال إنه كمال. ولكنهم يكافئون الأجهزة الرسمية التي تثبت أنها "أكثر" شفافية، وليست ذات الشفافية المطلقة، وهنا ينبع فكر استراتيجي لمحاربين يتلفعون بالطيبة، لكنهم – في الحقيقة، وأرجو العفو - حاقدون حتى عروق أضراسهم.. حاقدون على الفسادِ، حاقدون على سرقة المال العام .. هم لا يقولون، أنا أقول. فالفسادُ هو أصل كل بلاءٍ، هو وراءالفقر في بلدٍ من الممكن أن تقل طبقته الفقيرة، الفساد وراء ضعف أداء مرافق البلاد، وقلة الاكتراث بمكتسباتها الكبرى، وبإضعاف الإنجاز على الأرض، وبقتل الروح الخدمية الوظيفية، فحين يكون الموظفون من أجل الناس، فإذا هم يتسلطنون على الناس.. ولكن المحاربة المكشوفة ليست من مهام جائزةٍ أهلية طيبة، هي مهمة أجهزة الرقابة والمحاسبة في البلاد.. هم الذراعُ الطيبُ الذي يجفف منابعَ الفساد، أو يساهم في التجفيف. باعتقادي أن وراء سعفة القدوة الحسنة فكراً استراتيجياً من نوعية الفكر الغاندي في المقاومة السلبية، وأنا لا أحب أن أسميها سبلية، فليست هناك سلبية تؤدي إلى أعظم النتائج. هم يتبعون أكثر الوسائل الإيجابية في الحروب، قطع عروق العدو وهم جالسون مسالمون. على أن مجلس إدارة "سعفة القدوة الحسنة" يكرس الفكر المرئي- من قال إن الأفكارَ لا تُرى؟ يريدون دوماً هذا المصبَّ الكبير لتجمع الأفكار من الجميع فهم يجتمعون شهرياً مع أي مفكر أو مساهمٍ يريد أن يضيف رأيا أو فكرة في سبيل تفعيل آلية الجائزة، وإحقاق الشفافية.. وهذه رسالة قوية ألإيقاع لنشر روح الشفافية في أجواء الاجتماع.. كلما كبرت سعفة القدوة الحسنة، قويت، وانتشرت، واشتهرت، فيعني انتشارا أكبر للنور، انحسارا أكثر للظلام.. و"هيوم" يرى أن المخالفَ يحقق سعادة (والسعادة لديه نتيجة أخلاق) مثل الخفافيش التي تُسعَدُ بالظلام.. فإن كان هناك سعداء بين البشر يعيشون في ظلام الفساد والإعتام، فلا عجَبَ اذا مصّوا الدماءَ!
إنشرها