Author

هيرقليطس وفارس

|
عاصر الفيلسوف هيرقليطس أحداثا جساما تركت بصماتها على تفكيره خاصة في ميدان الحرب فاعتبرها أبو الأحداث وأمها وآلامها. فقد شهد في عام 480 قبل الميلاد الزحف الأعظم على بلاد اليونان، التي انتهت بهزيمة منكرة في معركة سلاميس البحرية. والرجل كان يعيش في آسيا الصغرى، تركيا الحالية في مدينة سيرسا وربما إفسوس، ولعله رأى مرور الجيوش الفارسية في مدينته. وأهم ما تركه الرجل من أفكار هي أن الكون يقوم على دورة طبيعية. وتحكمه قوتان: الحب والكفاح. وكل شيء ينشأ من هذا التنافس. وما نراه من تباين الأشياء، يرجع في النهاية إلى هذا الصراع الذي يوحد الأضداد في النهاية. وكان يرى أن الكون يقوم على صيرورة متدفقة؛ فلا يبقى شيء كما كان، حتى ولو وضع الإنسان قدمه في النهر مرتين، فلن يكون هذا النهر هو هو كما كان قبل لحظة. وهو محق من هذا الجانب، أن التدفق الكوني يقوم على تداخل المتغير والثابت. كما أن مبدأ التدافع أساسي في الوجود. وجاء ذكر هذا في القرآن مرتين: في سورتي البقرة والحج. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين). ولكن ليس معنى هذا أن تندلع الحروب. كما لا يعني التدافع القتل والقتال على نحو مطلق فوجب التنبيه! وعلينا أن نتفهم ظروف الرجل وإحداثياته التاريخية التي تشكل الضمير مثل أبناء غزة الغارقين في الدم والوحل مع شتاء 2009م! وهكذا فقد عاش في زمن سيطرت عليه الحروب من دون توقف، وكان الفكر اليوناني في مأزق يومها لو اجتاح الفرس بلاد الإغريق. ويذهب البعض إلى أن نجاة بلاد اليونان من الاحتلال الفارسي مهد الطريق لنشوء عبقرية بلاد الإغريق، التي أينعت بأدمغة مثل سقراط وأرسطو وأفلاطون وزينون وفيثاغوراس وبارامينيدس وديموقريطس وايمبيدوكليس وبروتاغوراس؛ فلا يمكن لأي إبداع أن يأخذ طريقه وسط الإكراه. وهو سر إحباط العالم العربي اليوم ونهضة الغرب، ولكن لانعترف! ومنه يقول هيرقليطس إن الحرب تحدد مصائر الناس، أن يكون سادة أو عبيدا. وهو محق في هذا؛ فقد عاش الرجل في ظروف مرعبة من جدل التاريخ. وفكرة الرجل جوهرية لفهم حركة التاريخ على ساقين، أنه يتحرك من دون توقف، وأنه يتحسن من دون توقف. ولقد عني القرآن بهذا الموضوع؛ فاعتبر أن الأصل في الدين أنه لا يقوم على الإكراه. وانتبه لهذا المؤرخ البريطاني توينبي فاعتبر أن الإسلام جاء بشيء عجيب للعالم، عندما سمح للمخالف أن يبقى على قيد الحياة. ولم يكن هذا المبدأ من التسامح الفكري قائماً في العالم يومها. لم يفهم هيرقليطس من الناس جيداً، وكان حريصا على تعتيم عباراته، ربما لأنه كان من عائلة أرستقراطية؛ فترفع عن الناس العوام، واعتبرهم جهلة لا يستوعبون (اللوجوس)، أي العقل. وكان يكرر؛ ثلاث آفات تطفئ النار العقلية: النوم والغباء والرذيلة. مفسدات أي مفسدة! من المهم أن نستوعب أن الفكر الإنساني يتطور ولا يقف عند فيلسوف، والاكتشافات العقلية الرائعة التي وصلوا إليها في عالم اللوجوس لا تنتهي، وبعد النزاع الفظيع بين الروس والأمريكيين في سباق الفضاء طبقوا مبدأ هيرقليطس لتتحد الأضداد من جديد، وينطلقوا بمشروع عملاق مشترك لبناء محطة فضاء عالمية قامت عام 2006م. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إنشرها