Author

لازم رأي بن عثيمين في رفضه لقياس فلوسنا المعاصرة على الذهب

|
هذه المقدمة مع حوارانا مع الأندلسي في الأسبوع الماضي تمهد لنقاش علمي مؤصل على الكتاب والسنة يبدأ من حيث انتهى علماؤنا رحمهم الله، هدفه الوصول إلى إعادة النظر في تأصيل تكييف الفلوس المعاصرة تحت واقع المتغيرات والمعطيات الحديثة والأحكام الناتجة عن ذلك. فالعلوم ينبني بعضها على بعض فهي إذن جهد تراكمي، ومن الحماقة عودة الباحث إلى الصفر حتى ولو اعتقد غير النتيجة التي توصل إليها من سبقه, فالبحث إما أن يكون تطويريا وإما أن يكون تصحيحيا. والبحث التصحيحي يعتمد على جهد من سبقوه عن طريق إظهار الخطأ وتبيين الصواب، وما بحثي هذا ببحث تصحيحي. فما أخطأ علماؤنا قط، بل قد اجتهدوا رحمهم الله وأصابوا حكم الله بهدي من الله في زمن كان الحكم مناسبا له، وإن يحشرني ربي تحت ظل غبار أقدامهم يوم القيامة إني إذن لسعيد وذو حظ عظيم. فالبحث هنا إذن بحث تطويري لمواكبة اختلاف الزمان والمعطيات، يبدأ من حيث انتهى علماؤنا رحمهم الله. وبما أن المقام هنا مقام المقال لا مقام البحث، فسأصور المسألة كمعركة فكرية كبرى انتقل بها من مقدمة الطرح إلى قلبه ثم أحيد إلى الأجنحة فأتكتك منها انسحابا إلى المؤخرة فأتزود بالدليل معيدا الكرة نحو المقدمة فأُنهي المقال بموقعة صغرى شبه متكاملة من الناحية الفكرية تشد انتباه القارئ و تزوده بنتيجة يزداد بها علما وتكشف له لبسا وتثير عنده فضولا علميا فيتطلع لإشباعه. وانطلاقا من هذا الأسلوب في العرض الذي أملاه مقام المقال، فإنه من المناسب هنا الابتداء بتأصيل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله للفلوس المعاصرة وتكييفه الفقهي لها. والهدف من ذلك هو سد أي ثغرة للجدل ولو تافهة قد تتعلق بحجة قدم الزمن، فالشيخ حديث عهد باللحاق بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا بإذن من الله، ورحمته وفضله وكرمه وعفوه الذي وعد به عباده المؤمنين. قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في تأصيل علة الذهب والفضة " وأقرب شيء أن يقال إن العلة في الذهب والفضة كونهما ذهبا وفضة، سواء كانا نقدين أو غير نقدين" انتهى . ( نقدين إي مسكوكين كالدينار(وهو من ذهب) والدرهم(من فضة) أو غير نقدين أي كتبر أو سبائك أو مخلوط ). فهو هنا يذهب إلى قول الشافعية والمالكية في المشهور عن المذهب، وهو إقصار للعلة على الذهب والفضة فلا يقاس عليهما أي شيء آخر. فعلى هذا القول لا يجري الربا في فلوسنا المعاصرة. ولكن من المعروف عن الشيخ القول بربوية الفلوس المعاصرة وتشديده على البنوك رحمه الله تعالى. وتفسير ذلك أن الشيخ رحمه الله قد ألحق فلوسنا المعاصرة إلحاقا لا قياسا على الفلوس وليس على الذهب وهو رأي شيخه ابن سعدي وابن حميد وعبد الله البسام. فبعد أن أصّل الشيخ رحمه الله علة القياس على الذهب بكونها ذهبا فهي علة قاصرة لا يقاس عليها غيرها، قال رحمه الله "فالأوراق النقدية مثل الفلوس، وهذا قول وسط" انتهى. والفلوس كانت إحدى الأدوات المالية التي يتعامل بها الناس قديما في تسهيل المبادلات. فكان الفلس يُسك ويُضرب من حديد أو زنك أو نحاس وعليه ختم السلطان (أي مفروضة بقوة السلطان)، فقيمتها قيمة اعتبارية لا حقيقية تماما كفلوسنا المعاصرة، فهي تُسك من ورق أو رقم في حاسب وعليها ختم السلطان. ورأي جمهور الفقهاء قديما وحديثا في هذه الفلوس بأنها ليست محلا لجريان الربا فلا بأس أن أتمول ريالا أعيده ريالين بعد مدة زمنية. والشيخ ابن سعدي وابن حميد وعبد الله البسام وابن عثيمين ومصطفى الزرقاء وغيرهم كثيرٌ جدا، جميعهم يكيفون الفلوس المعاصرة بإلحاقها بالفلوس التي كانت من قبل ولكنهم اختلفوا في الأحكام اللازمة من هذا التكييف. فبعد أن تقرر عندهم أن الفلوس المعاصرة هي نوع من أنواع الفلوس القديمة التي كانت سائدة من قبل، أخذ الشيخ ابن سعدي رحمه الله برأي جمهور العلماء في الفلوس وهو عدم جريان ربا الفضل ولا ربا النسيئة فيها فيجوز الريال بالريالين نسيئة (أي بالأجل) كما يجوز الفلس بالفلسين والثلاثة مع الأجل. وأما البقية رحمهم الله فقد أخذوا بقول شاذ يتيم عند الخراسانيين من الشافعية يرى جريان الربا في الفلوس. قال النووي في المجموع ج4 (وما بين الأقواس من كلامي): "إذا راجت الفلوس رواج النقود لم يحرم الربا فيها (أي لا يقع الربا فيها، أي كرأي ابن سعدي) هذا هو الصحيح المنصوص. وبه قطع المصنف والجمهور. وفيه وجه شاذ أنه يحرم ( أي أن الربا يقع فيها كرأي ابن حميد والبسام وابن عثيمين) حكاه الخراسانيون ( أي هذا الرأي الذي هو شاذ عند الشافعية)" انتهى. وعدم جريان الربا في الفلوس هو أيضا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله في الفتاوى المصرية "ولا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة ( أي الرائجة) بأحد النقدين وهو رواية عن أحمد نقلها أبو منصور واختارها ابن عقيل" انتهى. وانتبه هنا أيها القارئ الفطن إلى دقة شيخ الإسلام ابن تيمية. فهو عندما أطلق الثمنية علة للذهب والفضة التزم بمستلزماتها فلم يجر الربا في حُلي الذهب والفضة لأنها لم تعد ثمنا، وهو أيضا لم يجر الربا في الفلوس. فالفلوس في كل الأزمان وإن شابها ثمنية عارضة إلا أنها ليست ثابتة القيمة مما يجعلها موضعا للتجارة فتخرج بذلك عن الثمن الذي قرره شيخ الإسلام وبنى عليه رأيه في أن علة الذهب هو مطلق الثمنية. وانتبه أيضا أيها القارئ النبيه فلا يلتبسن عليك القول الثاني عند الأحناف الذي يرى جريان الربا في الفلوس. فهو قد اعتمد علة الوزن في قياس الفلوس على الذهب فلا يصح سحب هذا الحكم على الفلوس المعاصرة لأنها غير موزونة. وبما أنه لا يصح أن يقال إن هذا قد فات على ابن حميد والبسام وابن عثيمين وهم من هم رحمهم الله فلم يبق أمامهم إلا قول أهل خراسان من الشافعية في الفلوس وهو قول شاذ في المذهب الشافعي كما ذكره النووي. ولنقف هنا فنخرج بنتيجة من هذا المقال. علماء ربانيون جهابذ شهدت لهم الأمة بالعلم والورع والفقه كابن سعدي وابن حميد و ابن بسام وابن عثيمين، هم بعض من كثير قد أصلوا وكيفوا فلوسنا المعاصرة إلحاقا بالفلوس القديمة. وجماهير العلماء على عدم جريان الربا بنوعيه في الفلوس.( وأعيد هنا لألفت الانتباه بأن القول الثاني عند الأحناف في ربوية الفلوس قد اعتمد الوزن علة للقياس فلا ينسحب قولهم على فلوسنا المعاصرة). إذن فالشيخ ابن حميد وابن بسام وابن عثيمين قد اعتمدوا قولا يتيما شاذا حتى عند الشافعية فأجروا به الربا على الفلوس المعاصرة. فهل يتصور مسلم أن مثل هؤلاء العلماء الربانيون قد يحملون الأمة على القول بربوية الفلوس المعاصرة من أجل قول شاذ قاله أهل خراسان من الشافعية؟ حاشاهم أن يفعلوا ذلك، فهم قد كانوا يستندون إلى دليل شرعي صحيح ألا وهو السياسة الشرعية والتي تدخل تحتها المصالح المرسلة وسد الذرائع والاحتياط. هذه السياسة الشرعية التي أسسها ومثلها قول مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في قوله عن الفلوس المعاصرة "والاحتياط فيها أولى". (أهم جانب في هذه السياسة الشرعية هي تخوف العلماء من أن يمنع الناس الزكاة تتبعا لأقوال هنا وهناك في بعض المذاهب، وسأفصله لاحقا). والذي أدندن حوله منذ زمن هو ما اتفقت عليه الأمة، وهو أن السياسة الشرعية تختلف باختلاف الزمان والمكان والمعطيات. وهذا هو سر عظمة هذا الدين وتجدده وقابليته لكل زمان ومكان، فهلا تعرني سمعك أخي المسلم المنصف وتحكم من خلال الأدلة والبراهين لا من خلال الحكم المسبق المحسوم سلفا. فحجة "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" "مقتدون" هي حجة عقلية نفسية قوية غالبة ولكنها ملعونة كما وصفها إمام التوحيد الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. ولا يسفهن أحدٌ إلحاق فلوسنا المعاصرة بالفلوس القديمة فهو اختيار أكبر أئمة علماء الملة المعاصرين وآخرهم ابن عثيمين. ولا يستعظمن أحدٌ قياس الفلوس المعاصرة على الذهب فهذا لم يقل به أي من علماء الملة الكبار باستثناء الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى. وللحديث بقية نبدأها بتوضيح جانب من السياسة الشرعية التي كانت مناسبة في وقتها. ثم نُعرج فنُفصل لماذا رفض ابن عثيمين والعلماء قياس الفلوس المعاصرة على الذهب والفضة. وفيه نبين أن القول المشهور الآن وهو "أن الفلوس المعاصرة نقدا قائما بذاته قياسا على الذهب" يستلزم محظورات أصولية ونتائج فقهية خطيرة إضافة إلى أنه بُني على معطيات وحيثيات غير منضبطة لا نقلا (أي شرعا) ولا عقلا (أي تأصيلا). هذه محظورات لم يستهن بها أو يتجاوزها ابن عثيمين ومن سبقه من كبار علماء الملة كابن سعدي وابن حميد والبسام فردوا بسببها ورفضوا قياس الفلوس المعاصرة على الذهب والفضة، فلا يغرنك أخي الكريم بمن يظُن أن الأمر قد حُسم وانتهى حتى من بعض كبار طلبة العلم المعاصرين ممن لم يدرك أصل المسألة.
إنشرها