Author

التعسف في استعمال حق التقاضي

|
من نافلة القول إن الشريعة الإسلامية السمحة كفلت لكل شخص، مسلماً كان أم غير مسلم، حق اللجوء إلى القضاء لإنصافه مما وقع عليه من اعتداء أو جور، سواء من فرد أو جماعة أو حاكم. والخصوم متساوون أمام القاضي فلا تمييز ولا فرق بينهم لأي سبب كان كأصل أو جنس أو لون أو دين أو منصب أو جاه. ولقد أكدت المادة (47) من النظام الأساسي للحكم حق التقاضي للمواطنين والمقيمين في السعودية فنصت بأن (حق التقاضي مكفول بالتساوي للمواطنين والمقيمين في المملكة، ويبين النظام الإجراءات اللازمة لذلك). ومن المستقر عليه فقهاً وقضاء في الأنظمة القانونية المقارنة أنه لا يجوز لصاحب الحق أن يتعسف في استعمال حقه على نحو يلحق ضرراً بالغير، فدرء المفاسد أولى من جلب المنافع، فمثلاً لمالك العقار أن يتصرف في ملكه كيف يشاء شريطة ألا يضر بجاره. والحق في التقاضي كغيره من الحقوق يجب استعماله بطريقة مشروعة خالية من التعسف. فاستعمال الشخص لحقه في اللجوء إلى القضاء - كما يقول فقهاء القانون - ليس مطلقاً وإنما هو مقيد بألا يكون استعماله لهذا الحق بطريقة غير مشروعة تلحق أضراراً بالغير لأنه ممنوع من التعسف في استعمال أي حق من الحقوق التي تثبت له. فلا يجوز استخدام حق التقاضي بقصد الإساءة أو الكيد أو مضايقة الخصم. وقد حددت محكمة النقض المصرية في بعض أحكامها ضوابط استعمال هذا الحق فقالت في أحد أحكامها (إن حق الإلجاء إلى القضاء وإن كان من الحقوق العامة التي تثبت للكافة إلا أنه لا يسوغ لمن يباشر هذا الحق الانحراف به عما شرع له واستعماله كيدياً ابتغاء مضارة الغير وإلا حقت مساءلته عن تعويض الأضرار التي تلحق الغير بسبب إساءة استعمال هذا الحق). وقضت أيضاً في حكم آخر بأن (حق الالتجاء إلى القضاء هو من الحقوق التي تثبت للكافة فلا يكون من استعمله مسؤولاً عما ينشأ عن استعماله من ضرر للغير إلا إذا انحرف بهذا الحق عما وضع له واستعمله استعمالاً كيدياً ابتغاء مضارة الغير). كما قضت في حكم آخر (بأنه ولما كان حق الالتجاء إلى القضاء مقيدا بوجود مصلحة جدية مشروعة فإذا تبين أن المدعي مبطل في دعواه ولم يقصد بها إلا مضارة خصمه والنكاية به فإنه لا يكون قد باشر حقاً مقرراً بمقتضى القانون بل يكون عمله خطأ يجوز الحكم عليه بالتعويض). ويجمع فقهاء القانون أن إساءة استعمال حق التقاضي لا تتوافر بمجرد خسارة الدعوى، إنما تتوافر عند رفع الدعوى بسوء نية، لا بقصد الوصول إلى حق متنازع فيه، بل يقصد النكاية والإضرار بالخصم. وقواعد الشريعة الإسلامية السمحة ومنها قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة (درء المفاسد أولى من جلب المنافع) لا تجيز للشخص أن يتعسف في استعمال حقه في اللجوء إلى القضاء، أو أن يستعمله استعمالاً غير مشروع بهدف إلحاق الضرر بالغير، وقد عبر عن ذلك الفقيه ابن فرحون في كتابه (تبصرة الحكام) حيث قال (لو ادعى الصعاليك على أهل الفضل دعاوى باطلة وليس لهم من قصد إلا التشهير بهم وإيقافهم أمام القضاء إيلاماً وامتهاناً لا تسمع الدعوى ويؤدب المدعي). ولمواجهة ومعالجة ظاهرة الدعاوي الكيدية والباطلة فقد أصدر مجلس الوزراء قراراً برقم 94 وتاريخ 25/4/1406هـ بشأن الحد من آثار الدعاوي الكيدية والباطلة، حيث نصت المادة الثانية من هذا القرار على أن (من قدم شكوى في قضية منتهية بحكم أو قرار يعلمه وأخفاه في شكواه فيجوز إحالته للمحكمة المختصة لتقرير تعزيره). كما نصت المادة الثالثة على أن (من اعترض على حكم أو قرار نهائي مكتسب القطعية بقناعة أو تدقيق من جهات الاختصاص وثبت لدى المحكمة أنه لم يقدم وقائع جديدة تستوجب إعادة النظر في الحكم أو القرار فيؤخذ التعهد اللازم عليه في المرة الأولى بعدم الاعتراض على الحكم أو القرار فإذا تكرر منه ذلك يحال إلى المحكمة المختصة للنظر في تعزيره). وقررت المادة الرابعة من القرار المذكور أن (من تقدم بدعوى خاصة وثبت للمحكمة كذب المدعي في دعواه فللقاضي أن ينظر في تعزيره. وللمدعى عليه المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر بسبب هذه الدعوى). ثم نصت المادة الخامسة على أنه (دون الإخلال بالعقوبات التأديبية المنصوص عليها في الأنظمة الأخرى تتولى المحاكم المختصة وفقاً لنظام القضاء تقرير العقوبة التعزيرية عن المخالفات المنوه عنها في المواد السابقة بناء على دعوى الادعاء العام مع مراعاة ما ورد في المادة الرابعة). وأخيراً قررت المادة السادسة أن (يصدر وزير الداخلية بالاتفاق مع وزير العدل التعليمات اللازمة لتنفيذ هذه القواعد). ثم جاء نظام المرافعات الشرعية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/21 وتاريخ 20/5/1421هـ فنصت مادته الرابعة على ما يلي: (لا يقبل أي طلب أو دفع لا تكون لصاحبه فيه مصلحة قائمة مشروعة، ومع ذلك تكفي المصلحة المحتملة إذا كان الغرض من الطلب الاحتياط لدفع ضرر محدق، أو الاستيثاق لحق يخشى زوال دليله عند النزاع فيه. وإذا ظهر للقاضي أن الدعوى صورية كان عليه رفضها، وله الحكم على المدعي بنكال). ويتضح من نص هذه المادة أن الحق في الدعوى مقيد، شأنه في ذلك شأن غيره من سائر الحقوق، بالغاية منه، وبتحقيق المصلحة التي شرع من أجلها، والتي تتمثل في الفائدة العملية التي تعود على رافع الدعوى من الحكم له بما طلب، فإذا لم تكن له من رفع هذه الدعوى فائدة فلا تقبل دعواه لأنها تعد في هذه الحالة دعوى غير منتجة أو كيدية ويكون استعماله لحقه في رفعها عندئذ تعسفاً منه واستعمالاً غير مشروع للحق. ونصت المادة (4/5) من اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية على أنه (إذا ثبت لناظر القضية أن دعوى المدعي كيدية، حكم برد الدعوى وله الحكم بتعزير المدعي بما يردعه). كما قررت المادة (4/6) من اللائحة التنفيذية سالفة الذكر أنه (إذا ثبت لناظر القضية أن الدعوى صورية، حكم برد الدعوى، وله الحكم بالتعزير). وأوجبت المادة (4/7) من اللائحة المذكورة أن (يكون الحكم برد الدعوى والتعزير – في القضايا الكيدية والصورية - في ضبط القضية نفسها، ويخضع لتعليمات التمييز). وطبقاً للمادة (4/8) من اللائحة المذكورة فإن تقرير التعزير في القضايا الكيدية والصورية يكون لحاكم القضية أو خلفه بعد الحكم برد الدعوى واكتسابه القطعية. وأسوق هنا أمثلة تعد في تقديري نموذجية للتعسف في استعمال حق التقاضي. 1- يعد متعسفاً في استعمال حق التقاضي من يرفع دعوى قبل أوانها مثل الدعوى التي يرفعها الدائن ضد المدين قبل موعد استحقاق الدين. 2- يعد متعسفاً الشخص الذي يرفع دعواه أمام محكمة غير مختصة مكانياً، وهو يعرف ذلك، بقصد أن يتجشم المدعى عليه متاعب ومصاريف الانتقال والسفر. 3- ويعد متعسفاً في استعمال حق التقاضي من يرفع دعوى أمام محكمة غير مختصة اختصاصاً نوعياً، وهو يعرف ذلك، بقصد الكيد لخصمه وإرهاقه نفسياً. 4- يعد متعسفاً في استعمال حق التقاضي من يقدم التماساً بإعادة النظر في حكم نهائي في غير الحالات المحددة على سبيل الحصر في نظام المرافعات الشرعية. 5- يعد متعسفاً في استعمال حق التقاضي الشخص الذي يرفع دعوى للمطالبة بحق سبق أن تصالح بشأنه مع المدعى عليه صلحاً صحيحاً ولم يقصد من دعواه سوى الادعاء بالباطل والنكاية بالمدعى عليه. 6- يعد متعسفاً في استعمال حق التقاضي من يرفع دعوى للمطالبة بإعلان إفلاس مدين موسر بقصد التشهير به والإساءة إلى سمعته. 7- يعد المدعي متعسفاً إذا رفع دعوى أمام القضاء للمطالبة بالفصل في خلاف ناشئ عن تنفيذ أو تفسير عقد يتضمن اتفاق المتعاقدين على إحالة خلافاتهما الناشئة عن هذا العقد إلى التحكيم. 8- يعد متعسفاً في استعمال حق التقاضي من يلجأ إلى القضاء للمطالبة بالزام خصمه بإجراء التحكيم فيما شجر بينهما من خلاف إنفاذاً لشرط التحكيم المنصوص عليه في العقد المبرم بينهما، إذا لم ينشب خلاف بينه وبين خصمه قبل رفع الدعوى حول إجراء التحكيم. 9- يعد المدعي متعسفاً إذا قام بتبليغ المدعى عليه بالدعوى في وقت غير مسموح به نظاماً ودون إذن كتابي من القاضي، لأن المادة (13) من نظام المرافعات الشرعية تقرر بأنه (لا يجوز إجراء أي تبليغ أو تنفيذ في محل الإقامة قبل شروق الشمس ولا بعد غروبها ولا في أيام العطل الرسمية إلا في حالات الضرورة وبإذن كتابي من القاضي). صفوة القول إن حق التقاضي ليس حقاً مطلقاً بل هو مقيد بتحقيق مصلحة جدية ومشروعة فلا يجوز استعماله بهدف النكاية بالخصم أو مضايقته أو الإساءة إلى سمعته، ولا يكفي في تقديري للحد من ظاهرة الدعاوى الكيدية والباطلة تحميل من ثبت تعسفه بجميع أتعاب المحاماة ونفقات الدعوى التي تحملها خصمه فحسب بل يتعين إلزامه أيضاً بأن يعوض خصمه تعويضاً عادلاً عن الأضرار المادية والمعنوية الأخرى التي تكون قد لحقت بالخصم مثل التشهير وإساءة السمعة.
إنشرها