Author

الآن.. إعادة النظر في نظام الرعاية السخي.. وتصحيح الأسعار

|
في حلقته الثانية حول أسعار المنتجات النفطية في المملكة، يشير الكاتب الاقتصادي الدكتور عبد الوهاب السعدون إلى أن السياسات تسعير الحالية للمحروقات والخدمات الأساسية، باتت تشكل استنزافا لموارد الدولة، ولا يوجد أمام المملكة في ظل تراجع العوائد النفطية وتبني الحكومة خيار الإصلاح الاقتصادي سوى إعادة النظر في التزاماتها تجاه شبكة الأمان الاجتماعي الحالية. ويباع لتر البنزين للمستهلك حاليا بـ 60 هللة لنوع (أوكتين 95)، و45 هللة لنوع (أوكتين 91)، فيما يبلغ سعر لتر الديزل 37 هللة. لا يقتصر طرح الدكتور السعدون على أسعار المنتجات النفطية، بل يتناول أيضا بعض أسعار الخدمات مثل تعرفة الماء والكهرباء، مشيرا إلى أن المعطيات الاقتصادية الحالية تحتم إعادة دراسة هذه الأسعار، و"على الجميع تحمل المسؤولية ومساعدة الدولة في تصحيح الأوضاع ضمانا للمستقبل". إلى تفاصيل طرح السعدون في جزئه الثاني. تطرقنا في الجزء الأول من هذه المقالة إلى سياسة تسعير المحروقات في المملكة والآثار الاقتصادية والبيئية المترتبة عليها وخلصنا إلى نتيجة مفادها أن سياسات التسعير يجب أن يعاد النظر فيها على أن تكون مبنية على أسس مدروسة لا تلحق ضررا بالقطاعات الإنتاجية والخدمية، وفي الوقت ذاته تساعد على ترشيد الاستهلاك المحلي من المشتقات النفطية الذي يتصاعد بمعدلات عالية عالميا. وفي هذا الجزء سنتناول جانبا آخر من تسعير الخدمات الأساسية المرتبطة بالمشتقات النفطية وهي تعرفة الماء والكهرباء. ولعل القاسم المشترك بين الجزءين الأول والثاني من هذه المقالة هو أن سياسة الدعم التي تقدمها الدولة تكلفها مليارات الدولارات سنويا وهي تقدم للجميع بغض النظر عن كونهم أغنياء أو فقراء. مثال آخر .. تعرفة الكهرباء والماء يعد قطاع تحلية المياه وتوليد الكهرباء في المملكة أحد أهم القطاعات المستهلكة للوقود والمشتقات النفطية حيث تحرق كميات ضخمة منها سنويا لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر المالحة. ونتيجة لأهمية هذا القطاع في تغذية القطاعات التجارية والصناعية والسكنية باحتياجاتها من الكهرباء والماء عكست التسعيرة الحالية للكهرباء والماء توجه الدولة لدعم تلك القطاعات إضافة إلى حرصها على تخفيف تكاليف المعيشة على المواطن والمقيم في المملكة. فعلى سبيل المثال يبلغ سعر بيع المتر المكعب من مياه الشرب في المملكة نحو ريالين للمتر المكعب فيما تقدر تكلفة إنتاج المياه المحلاة بنحو ثلاثة أضعاف سعر بيعه !! ويزيد معدل تعرفة المياه في كل من الكويت والإمارات بنسبة 30 و100 في المائة على التوالي عن تعرفة المياه في المملكة. وكنتيجة مباشرة لتسعيرة المياه المنخفضة في المملكة أصبح معدل استهلاك المياه للفرد في المملكة الثالث عالميا وبمعدل استهلاك يومي يبلغ 250 لترا للفرد ! ولك أن تتخيل ما يعني ذلك في دولة صحراوية لا تتوافر فيها موارد مياه طبيعية وتغطي نصف حاجاتها من المياه من خلال تحلية مياه البحر في الوقت الحاضر. وهذا المستوى العالي من الاستهلاك للمياه في المملكة والمقدر له أن يستمر في الفترة المقبلة بمعدل 4.5 في المائة سنويا يشكل نحو ضعف معدل النمو السكاني في المملكة وسيؤدي حتما في المستقبل إلى فجوة بين الطلب والعرض والتي بدورها ستقود إلى أزمات يعانيها الجميع ما لم يتم تدارك الأمر وبسرعة. وهناك أمران جديران بالإشارة في هذا السياق وقد يكونان مجالي بحث مستفيض في مقالة قادمة بإذن الله، الأول هو أن 88 في المائة من استهلاك المياه في المملكة يذهب لقطاع الزراعة وهذا يعني أن صادرات المملكة من المنتجات الزراعية والحيوانية هي بصورة غير مباشرة عملية تصدير للمياه التي تباع في المملكة بأسعار مدعومة، والثاني أن شبكة إعادة التدوير لا تدور في الوقت الحاضر أكثر من 30 في المائة من مياه الصرف الصحي. وكلا الأمرين بحاجة إلى معالجة سريعة لتوفير حلول عملية لمشكلة شح المياه الذي تعانيها مناطق عدة في المملكة خصوصا في فصل الصيف. #2# ولا يختلف الحال كثيرا في قطاع الكهرباء عن قطاع تحلية المياه حيث توفر الدولة كميات كبيرة من الغاز الطبيعي والمشتقات النفطية لمحطات توليد الكهرباء بأسعار مدعومة تراوح بين 2 و2.5 دولار للبرميل لزيت الوقود الثقيل و2.65 و5.5 دولار للبرميل للخام العربي الثقيل والخفيف على التوالي. وهذه الأسعار تم تثبيتها من قبل الدولة مقابل تثبيت أسعار بيع الكهرباء للمستهلكين في المملكة بأسعار تنافسية تبلغ 5 و26 هللة للكيلووات للقطاعين السكني والتجاري و12 هللة للكيلووات للقطاع الصناعي. الجدير بالذكر أن معدل تكلفة إنتاج الكيلووات من الكهرباء تقدر بنحو 11 هللة للكيلووات ما يعني أن بعض محطات الكهرباء في عدد من مناطق المملكة تبيع الكهرباء بأسعار لا تغطي تكاليف إنتاجها الفعلية. وأسوة بتسعيرة المياه تعد أسعار الكهرباء في المملكة الأقل على مستوى دول الخليج حيث تزيد أسعارها في الإمارات مثلا بنسبة تراوح بين 167 و275 في المائة حسب شريحة الاستهلاك. والموضوعية تقتضي القول بأن بعض دول الخليج توافر حصريا للمواطنين الماء والكهرباء مجانا أو تقدم لهم بدلا نقديا مقطوعا يغطي معدل فاتورة الكهرباء والماء وهذه الميزة تقتصر على المواطنين دون المقيمين في تلك الدول، ولعل ما يسمح بذلك أن عدد المستفيدين من تلك الخدمات يعد ضئيلا لكون المواطنين أقلية في تلك البلدان. ويبدو أن النمو الكبير في الطلب على الكهرباء والماء للقطاعات السكنية والاقتصادية في المملكة المرتبط بمعدل النمو السكاني المرتفع إضافة إلى التوسع في القطاعات الاقتصادية والصناعية أفرز ظاهرة بدأت تتكرر وهي ظاهرة انقطاع التيار الكهربائي في عدد من المناطق الصناعية والسكنية في فترة الصيف تحديدا وهذا يعود إلى أن الطلب في المملكة على الكهرباء يبلغ ذروته في أشهر الصيف الحارة التي تزيد فيها معدلات الاستهلاك عن الطاقات التصميمية للشبكة. من جانب آخر فإن توجه الدولة لتحرير هذا القطاع يتطلب إعادة النظر بالتعرفة المثبتة حاليا من قبل الحكومة حيث إن الجدوى الاقتصادية لمشاريع توليد ونقل وتوزيع الكهرباء ليست مغرية للقطاع الخاص ما لم يعد النظر في هيكل تسعيرة الكهرباء والماء. من جانب آخر، مطلوب التركيز في المرحلة المقبلة على أنظمة كفاءة الطاقة الكهربائية وأنظمة العزل في مشاريع القطاعات الاقتصادية والسكنية لضمان كفاءة استخدام الطاقة. وبطبيعة الحال فإن أي توفير في استهلاك الكهرباء من قبل القطاعات غير الإنتاجية سيؤدي بالتالي إلى الاستفادة منه لتغذية مشاريع تنتظر تخصيص الكهرباء لها وبالتالي ينتج عنه توفير في الكميات المحروقة من النفط الخام والمشتقات النفطية، الأمر الذي يمكن الدولة من بيعها في الأسواق الخارجية بالأسعار العالمية والاستفادة من العوائد في تمويل المزيد من مشاريع التنمية في المملكة. أين تكمن المشكلة؟ معدلات الاستهلاك العالية للمشتقات النفطية والخدمات الأساسية وعلى وجه التحديد الماء والكهرباء التي تحفزها الأسعار المنخفضة لتلك المنتجات والخدمات توضح بتقديري أن المشكلة لا تكمن في مكتسبات دولة الرعاية وتحديدا سياسات دعم أسعار المحروقات والخدمات الأساسية التي تقدمها المملكة بل في كون الأغنياء والفقراء يستفيدون منها على حد سواء.. وعلى العكس من الدول الصناعية التي تقدم معونات وبرامج رعاية اجتماعية سخية تستفيد منها تحديدا شريحة ذوي الدخول المحدودة من المواطنين والمقيمين وتمول من خلال ضرائب عالية تفرضها على المواطنين والمقيمين فيها، فإن الأغنياء والفقراء في المملكة يستفيدون من سياسات دعم الأسعار الخاصة بالخدمات والمنتجات الأساسية وفي الوقت ذاته فإن الجميع لا يدفعون للدولة رسوماً مقابل التمتع بتلك البرامج والخدمات المدعومة. ومن الواضح أن برامج وخدمات الرعاية المدعومة في المملكة شهدت سوء استغلال على مختلف المستويات مرده تدني أسعارها ما جعل عددا كبيرا من المواطنين يسرفون في استخدامها وانتفى لدى قسم كبير منهم الحافز لترشيد الاستهلاك ونشأ عن ذلك ظهور جيل تحكمه العقلية الاستهلاكية وينتفي لديه الحافز للترشيد في كافة المجالات الحياتية. بمعنى آخر فإن نظام الرعاية الاجتماعية السخي في المملكة كرس ثقافة الاستهلاك على حساب ثقافة الترشيد والإنتاج. وعلى هذا الأساس فإن سياسات التسعير في المملكة منحت الجميع ـ القادرين والمعوزين ـ تسهيلات وإعفاءات كانت مبررة من قبل، ولكنها تحولت فيما بعد إلى استنزاف لموارد الدولة المالية. ونتيجة لذلك لا يوجد أمام المملكة في ظل تراجع العوائد النفطية وتبني المملكة خيار الإصلاح الاقتصادي سوى إعادة النظر في التزاماتها تجاه شبكة الأمان الاجتماعي الحالية، بحيث لا يساء توظيف مواردها المالية في تقديم خدمات يتم استخدامها استخداماً سيئاً من قبل بعض المواطنين، وفي الوقت ذاته قصر تقديم الخدمات والمساعدات الاجتماعية على شريحة ذوي الدخول المحدودة. وإذا نظرنا في محيطنا الخليجي والعالمي لن نحتاج إلى وقت طويل لإدراك أن نهج دولة الرعاية وتقديم الخدمات المجانية قد تجاوزه الزمن. ومع أن المواطن قد لا يقرأ بعين الرضا مثل هذه الطروحات، فإن الحقيقة التي لا مفر من مواجهتها، هي أنه لا يوجد مخرج آخر متاح لاحتواء العجز في سد حاجة السوق المحلي من المحروقات والخدمات الأساسية كالكهرباء والماء سوى تصحيح أسعارها لتعكس على الأقل تكاليف إنتاجها وبما يحقق أيضا ترشيد استهلاكها ويجذب المستثمرين لتطوير مشاريع جديدة لتوليد الكهرباء وتحلية المياه. فالحاجة تبدو ملحة إلى تنفيذ الإصلاحات اللازمة التي قد تكون غير مستحبة لدى البعض في الوقت الراهن .. إلا أن تغيير التطلعات الاقتصادية العالية من قبل المواطنين الذي يتطلب بدوره تغيير أسلوب الحياة يبدو أمراً حتمياً ويتطلب من المواطنين الاشتراك في تحمل المسؤولية الاجتماعية وقبول التضحيات المطلوبة والاستعداد العالي للعطاء وفق مبدأ "الغرم مقابل الغنم" والمشاركة في تحمل مسؤولية مساعدة الدولة على تصحيح الأوضاع ضماناً للمستقبل. وهنا من المهم التأكيد على أن تكون الأسعار الجديدة عادلة ومنصفة، وتطول الغني قبل الفقير. فليس من الإنصاف تحميل ذوي الدخل المحدود وأبناء الطبقات الوسطى، الذين كانت دولة الرعاية تشكل حماية لهم من أعباء الحياة الباهظة تكلفة الإصلاحات الاقتصادية المقبلة. هذه المعطيات تقودنا إلى القول: إن الجميع مطالبون بأن يتقبلوا مفاهيم جديدة للحياة، ويستعدوا لتحمل أعباء إضافية بالنسبة للبعض، والعاقل من يتعظ فالمرحلة الحالية والمقبلة تتطلب من المواطنين تقبل متطلبات إصلاح الاقتصاد الوطني، ودفع ضريبة الانتماء والاستقرار والأمن والمواطنة، وتقبل تغييرات لها صفة الديمومة على أساليب الحياة، فالمرحلة المقبلة هي مرحلة الاعتدال في الإنفاق. ولعل أهم ما أفرزته الأزمة المالية العالمية الحالية أنها أبرزت وبصورة ملحة مدى الحاجة إلى إجراء مراجعات دورية وتبني سياسات حازمة قد تبدو غير مستحبة عند الكثيرين الذين تتحدد مواقفهم بناء على مدى تأثر مصالحهم الشخصية .. لكن من فوائد الأزمات أنها تخلق فرصا للإصلاح الذي يهدف إلى ضمان استمرار مسيرة الخير والنماء في هذه البلاد. ومن المهم أن تواكب مسيرة الإصلاح الاقتصادي تغييرات في الثقافة والسلوكيات الاستهلاكية. ومن المأمول أن تتسارع عملية إصدار التشريعات الإصلاحية التي طال انتظارها .. ولنا أن نتذكر تحذيرات قادة هذه البلاد في نهاية التسعينيات عندما وصلت أسعار النفط إلى مستويات متدنية وبلغة لا لبس فيها عن أن مرحلة ما يسمى بالرعاية من المهد إلى اللحد قد انتهت.
إنشرها