الترقب القلق

الترقب القلق

ينتشر فيروس إنفلونزا جديد في جميع أنحاء العالم. وهناك تساؤلات إذا كان العالم مستعدا للوباء التالي. تخلو ملاعب كرة القدم والمطاعم والكنائس في المكسيك من الناس، وآخر موضة هناك هو استخدام الكمامات. وعلى الرغم من أنه تم إرسال الجيش لتسليم ملايين الكمامات أو الأقنعة مجانا، إلا أن إمدادات الصيدليات أوشكت على النفاد، ويشعر الناس بالغضب من بعض الباعة الذين رفعوا أسعار الكمامات لتصبح 50 بيزو (نحو 3.50 دولار). وكلما يعطس أحد أو يسعل، يحاول القريبون منه الابتعاد عنه بأسرع ما يمكنهم دون أن يبدو وقحين. كما يعرف العالم الآن، فإن المكسيك هي الدولة الأولى التي أصيبت بالسلالة الجديدة المميتة من الإنفلونزا التي انتقلت من الخنازير إلى الناس. لقد كانت الدولة الأولى، ولكن ليست الأخيرة. ففي الوقت الذي تم فيه إرسال "الإيكونوميست" للنشر، كان قد تم الإعلان عن إصابة 2500 مكسيكي بأعراض تبدو ناتجة عن الفيروس الجديد، وتوفي أكثر من 170 شخصا منهم، مع أنه لم يتم تأكيد سوى ثمانية أشخاص منهم بوصفهم حاملين للفيروس الجديد. وقد ظهر هذا الفيروس الآن في 12 دولة أخرى في أربع قارات، وتجاوزت حالات الوفاة حدود المكسيك، بدءا بطفل في تكساس. وقد يكون هذا بداية وباء إنفلونزا - وهو حدث كان متوقعا منذ فترة طويلة، إلى درجة أن الكثيرين، كما يبدو، أثاروا مخاوف انتشار المرض، خاصة حين كان يتم إنفاق الأموال على الاحتياطيات الضرورية لمنع انتشاره. إلا أن هذه الاحتياطيات تبدو حكيمة الآن. ففي التاسع والعشرين من نيسان (أبريل)، رفعت منظمة الصحة العالمية درجة المرض الجديد إلى المستوى الخامس على مقياس درجة خطورة الأوبئة المؤلف من ستة مستويات للإنذار. وجمعت بعض الدول مخزونات من الأدوية المضادة للفيروسات خلال الأعوام القليلة الماضية. ولحسن الحظ، يبدو أنها فاعلة لمحاربة السلالة الجديدة من الفيروس, وتم زيادة الرقابة على الحدود. وبدأت الصين وروسيا بوضع الزوار الذين يعانون أعراضا مريبة في الحجر الصحي. وأخرجت المطارات الآسيوية معدات الاستشعار الحرارية من صناديقها، التي كانت قد استخدمتها بعد انتشار حالات ذعر في السابق بسبب بعض حالات الإصابة بإنفلونزا الطيور ومرض الالتهاب الرئوي الحاد، من أجل الكشف عن المسافرين الوافدين المصابين بالمرض. الأوبئة السابقة والمحتملة وعلى الرغم من أن الحقائق لا تزال غامضة، إلا أن الفيروس الجديد (سلالة من فيروس إنفلونزا الطيور المعروف باسم H1N1، حيث إن H1 وN1 هما اختصار لاثنين من البروتينات التي تميز الفيروسات) استحوذ الآن على اهتمام العالم. وهناك ثلاثة أسئلة مهمة بحاجة إلى إجابة. أولا: هل يمكن أن يتحول إلى مرض عالمي قاتل؟ ثانيا: ما الدروس التي يمكن استخلاصها من الأوبئة السابقة؟ ثالثا: كيف يجب أن تستجيب الحكومات حين تواجه تهديدا غير مؤكد، ولكنه قد يكون مدمرا؟ ولنبدأ بمسألة فيما إذا كان الفيروس الجديد وباء خطيرا آخذا في الانتشار. إن الإنفلونزا الموسمية تأتي وتذهب (تصيب عادة 20 في المائة من الشعب الأمريكي)، حيث يتطور الفيروس قليلا بين كل فصل شتاء وآخر. ولكن يظهر بين حين وآخر فيروس إنفلونزا جديد، يكون لدى القليل من الناس فقط حصانة ضده. وتسمى الموجة العالمية من الإصابات بالفيروس الجديد وباء. وقد عاش البشر مع مثل هذه الأوبئة لقرون عديدة، بل ربما منذ ألف عام. ولا يزال العالم يعاني أوبئة الإيدز والسل والملاريا. وما يجعل الإنفلونزا مختلفة هو أنه من السهل الإصابة بها. فالإنفلونزا الموسمية هي واحدة من أهم عشرة أسباب تؤدي إلى الموت في أمريكا، ويرتفع العدد أكثر في الدول الأقل تطورا. كما أن فيروسات الإنفلونزا قابلة للتغير بصورة مذهلة, فتركيبتها الوراثية تتغير غالبا عن طريق الخطأ حين تنتج الخلايا المصابة بها جزيئات فيروس جديدة. علاوة على ذلك، إذا أصيب شخص أو حيوان بأكثر من سلالة في الوقت نفسه، قد تتبادل تلك السلالات المورثات الجينية. ولن تنجح معظم هذه السلالات الجديدة الناتجة في التطور، ولكن قد يزدهر أحدها أحيانا، ولأنه جديد تماما، لن يكون جهاز المناعة الذي يستوطن فيه مستعدا له. والنتيجة هي فيروس وبائي محتمل, وهذا ما يبدو أنه حدث هذه المرة. وربما يعود السبب في كون معظم الوفيات الناتجة عن الفيروس الجديد محصورة في المكسيك في أنه ظهر هناك أولا وانتشر تحت غطاء الإنفلونزا الموسمية العادية، دون أن يلاحظ أحد. وبالتالي سيكون المصابون المكسيكيون المشتبه بهم، والبالغ عددهم 2500، مجرد جزء صغير من العدد الكلي، وسيكون أولئك الذين لقوا حتفهم أشخاصا إما ضعفاء بصورة خاصة، أو غير محظوظين، أو لم يتلقوا ببساطة العلاج بصورة سريعة وفاعلة, كما كان سيحدث في أي دولة غنية. ومن المحتمل أيضا أن هناك شيئا فريدا يميز المكسيك، كأن يكون مثلا الأشخاص الذين ماتوا مصابين بفيروس آخر تفاعل بصورة قاتلة مع الفيروس الجديد. ولكن إذا لم يكن أي من هذه التفسيرات صحيحا، فقد يعني ظهور نوع متطور ثانوي وقاتل أخيرا، وأنه ينتشر الآن. وستكون تلك مشكلة خطيرة تهدد بقية العالم، إضافة إلى المكسيك. صراع أبدي يخشى الناس من أوبئة الإنفلونزا الجديدة لسبب قائم من 90 عاما. ففي عامي 1918 و1919، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تسبب وباء يعرف باسم "الإنفلونزا الإسبانية" (مع أنه لم يبدأ من إسبانيا) في مقتل ما بين 50 إلى 100 مليون شخص. وظهرت أوبئة إنفلونزا أخرى في الأعوام 1889، 1957، و1968 لكنها كانت أقل حدة. ولكن يعتقد أن آخر هذه الأوبئة تسبب في مقتل ما لا يقل عن مليون شخص. واستخدمت دراسة نشرت في Lancet عام 2006 بيانات من الإنفلونزا الإسبانية للتنبؤ بأن ظهور وباء حديث بالحدة نفسها قد يقتل 62 مليون شخص، حيث تكون 96 في المائة من هذه الوفيات في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وأشارت تقديرات دراسة أخرى أجراها البنك الدولي إلى أن ظهور مثل هذا الوباء قد يحصد 70 مليون شخص. حتى لو كان الفيروس الجديد بضراوة الفيروس نفسه الذي سبب الإنفلونزا الإسبانية، فإن أحد أسباب الأمل بألا يتسبب في الكثير جدا من الوفيات هو إمكانية التغلب عليه باستخدام الأدوية المضادة للفيروسات، بما في ذلك Tamiflu، ولم تكن مثل هذه المضادات متوافرة عام 1918. إلا أن هذه هي الأخبار الجيدة الوحيدة. فليس هناك أمل في أن يكون هناك علاجات كافية من الأدوية المضادة للفيروسات لجميع من سيحتاج إليها إذا حدث الوباء. والأكثر من ذلك هو أنه إذا انتشر الوباء فسرعان ما سيظهر نوع متطور معدل جديد مقاوم للأدوية. ويشير هذا إلى السؤال الثالث: كيف يمكن للحكومات استغلال هذا الوقت للاستعداد؟ وقد أصبح هذا السؤال أكثر إلحاحا بسبب الأدلة المتزايدة على أن الأوبئة قد تلحق خسائر اقتصادية فادحة بالدول الفردية وبالعالم ككل على حد سواء. ولحسن الحظ، قامت الحكومات، تحت إلحاح منظمة الصحة العالمية وبسبب الدروس التي تم تعلمها من مرض السارس وإنفلونزا الطيور، بتعزيز أنظمة مراقبة الأمراض وتحسين قنوات الاتصال بين وزارات الصحة وتنسيق تخزينها للأدوية. ولكن لا يمكن أن يلغي هذا سبب حدوث الوباء في المقام الأول - أي أن الجهاز المناعي لمعظم الناس غير مسلح ضد الفيروسات الجديدة التي قد تسبب وباء. لذا حان الوقت للعمل على إعداد لقاح. ولكن العائق أمام ذلك هو أن قدرة العالم على إيجاد لقاح ضد وباء الإنفلونزا تستند إلى الكميات الأصغر اللازمة لمكافحة الإنفلونزا الموسمية. والطريقة المستخدمة لصنع لقاحات الإنفلونزا تتطلب رأسمالا كبيرا (وهي عملية قديمة تستخدم بيض الدجاج كحاضنات) ومكلفة جدا وبطيئة ولا يمكن توسيعها بسهولة للتكيف مع الأنواع المتغيرة الأخرى من الفيروس أو مع فيروسات جديدة تماما. وستبرز الحاجة إلى لقاحات بأعداد أكبر وأكثر فاعلية. وتقوم بعض شركات صنع اللقاحات الكبيرة مثلا بتعزيز الطريقة التقليدية باستخدام عناصر مساعدة. وهي بمثابة محفزات يتم إضافتها إلى اللقاحات لتحسين فعاليتها وتقليل كمية المكونات النشطة اللازمة. والأسبوع الماضي، أعلنت شركة Novartis السويسرية العملاقة للأدوية نتائج أبحاثها حول اللقاحات التي أساسها العناصر المساعدة لمكافحة إنفلونزا الطيور H5N1. وتشير النتائج إلى أن منتجها قد يوفر حماية لمدة ست سنوات، حتى ضد سلالات الفيروس التي لم تكن معروفة من قبل. إلا أن Peter Dunnil، مهندس الكيمياء الحيوية في جامعة University College في لندن، يقول إنه حتى في ظل أكثر الحسابات تفاؤلا، ومع أخذ العناصر المساعدة بعين الاعتبار، فإن القدرة الحالية على صنع اللقاحات ستغطي أقل من 10 في المائة من سكان العالم. علاوة على ذلك، لا يوجد سوى تسع دول فقط - معظمها في أوروبا - لديها قدرات محلية كافية لتزويد شعوبها. حتى الولايات المتحدة ليست مكتفية ذاتيا. فخلال فترة اندلاع إنفلونزا الخنازير الأخيرة فيها، عام 1976، منعت الحكومة تصدير اللقاحات, وقد يحدث هذا ثانية إذا انتشر الذعر بين الناس. ولكن من المحتمل أن تظهر تكنولوجيا جديدة لتنقذنا. ويقول Gregory Poland من سلسلة المستشفيات الأمريكية، Mayo Clinic، إنه بفضل السارس وإنفلونزا الطيور والمخاوف المتعلقة بالإرهاب البيولوجي، تم الشروع في العمل على مجموعة من الحاضنات الجديدة وتقنيات التصنيع. ومن الأمثلة اللقاحات التي أساسها الحمض النووي DNA، التي يتم تصنيعها في مزارع الخلايا، بدلا من حضنها ببطء في البيض. وقد أثبتت شركة Vocal، شركة التكنولوجيا الحيوية الأمريكية، في الاختبارات الأولية أن لقاحها الذي أساسه الحمض النووي لمكافحة الإنفلونزا التي قد تكون وبائية، مثل سلالات H5N1، آمنة وفاعلة، وتزعم أنه يمكن تطوير التكنولوجيا بسهولة. وحققت شركة Novavax، وهي شركة أمريكية ناشئة أخرى، نتائج واعدة أيضا باستخدام "جزيئات شبيهة بالفيروس" (مصنوعة من بروتينات فيروسية غير معدية مطهرة بمواد وراثية). ويقول Rahul Singhvi، رئيس شركة Novavax، إن تكلفة "مصانعه المحمولة" أقل بنسبة الخمس من المصانع التقليدية ولكنها قادرة مثلها على إنتاج ملايين الجرعات خلال 10 و12 أسبوعا. ما مدى ارتفاع حاجز الحماية؟ إذا كانت إنفلونزا الخنازير هي الوباء القاتل التالي، سيلعن العالم نفسه لأنه لم يكن مستعدا بما فيه الكفاية. ولكن يجب ألا ينسى العمل الهائل الذي تم تنفيذه في السنوات الخمس الماضية. فإلى جانب المخزونات الوطنية والعالمية من الأدوية المضادة للفيروسات والمعدات الطبية والموارد المالية، وضعت العديد من الدول, بل حتى الشركات خطط في حال اندلاع وباء ما. وستكون تلك الخطط مفيدة في حال أي هجوم إرهابي بيولوجي أيضا. وفي هذه الأثناء، تقدم هيئات الصحة العامة العالمية دعما كبيرا في المكسيك، حيث تشيد بمهنية أطباء الدولة وصنّاع السياسة والإجراءات السريعة التي تم تنفيذها بعد التعرف على الفيروس. ووفقا لمستطلع الآراء، Roy Campos، فإن الرأي العام مؤيد إلى حد كبير للحكومة حتى الآن. فالمسكيكيون يعتقدون أن المسؤولين تصرفوا بصورة مناسبة ويصدقون المعلومات التي يتلقونها، على الرغم من بعض الانتقادات التي بدأت تظهر حول التأخر في التعرف على الفيروس في المقام الأول، وحول أوجه القصور في استجابة الأجهزة الصحية. ويصر Julio Frenk، وزير الصحة المكسيكي السابق الذي يدير الآن كلية هارفارد للصحة العامة، على أن العالم اليوم "أكثر استعدادا بكثير.. الجميع ينتظر منذ زمن مثل هذا الحدث." وهو محق في ذلك. ولكن من غير المعروف بعد فيما إذا كانت التحصينات قوية بما فيه الكفاية لتحمل الهجوم.
إنشرها

أضف تعليق