Author

مصارف الأوقاف … التاريخ والآمال 1

|
[email protected] الوقف من أفضل القربات وأجَلِّ الطاعات، لما فيه من استمرار العمل الصالح واستمرار أجره لصاحبه بإذن الله تعالى، وقد عرَّف العلماء الوقف بأن : تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهو من خصائص المسلمين، إذ لم يعرف من قبلهم. قال الإمام الشافعي رحمه الله: لم يحبِّس أهل الجاهلية داراً ولا أرضاً فيما علمت، ولذا قال الإمام النووي رحمه الله: الوقف من خصائص المسلمين. ومن عمومات النصوص الدالة على مشروعيته قول الله تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]. وأقره النبي صلى الله عليه وسلم وحثَّ الصحابة عليه، كما جاء في غير ما حديث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية.. " الحديث. وقد بلغ من حرص الصحابة أنه لم يبق أحد منهم وهو يستطيع أن يوقف إلا وقف، وكان للخلفاء الراشدين قصب السبق في هذا الباب رضي الله عنهم، وقد سرد الإمام البخاري رحمه الله في آخر كتاب الوصايا من صحيحه ما يدل على هذا، وعلى بعض الأحكام المتعلقة بالوقف. وعند التأمل في محل الوقف ومصارفه فقد تنوعت في حياة المسلمين بحسب ما عند الواقفين من العلم، وبحسب الحاجات التي قامت في أزمنتهم. ومما يدل على اتساع مساحة الوقف وتعدد مصارفه وشيوع منافعه، أن جمهور العلماء إلا الحنفية اتفقوا على جواز وقف المنقول مطلقاً، كآلات المسجد مما يضاء به ويفرش، وأنواع السلاح والثياب والأثاث، أما العقارات من أراضٍ ودور وبساتين وغيرها فالقول بجواز ذلك محل اتفاق عامة العلماء، لأن جماعة من الصحابة كان لهم من العقارات ما أوقفوه، ولأن العقار في الغالب يبقى ولا يزول، وهذا ما يتضمنه تعريف الوقف. ومن نظر في أوقاف المسلمين وما دوَّنه قضاتهم وولاتهم في ذلك فإنه يتملكه الإعجاب إلى حد كبير بأولئك السلف الكرام ـ رحمهم الله ـ فتجد مثلاً من أوقف عقارات وبساتين في الهند مثلاً على طلاب العلم في المسجد الحرام، وتجد من المسلمين من أوقف الضياع (البساتين الكبيرة) في الشام على الذين يتعلمون الحديث النبوي في المسجد النبوي، وهكذا، مما يضيق المقام عن سرده. بل تجد أن بيوتاً قد أسست وأوقفت لتكون مهاجع ومنازل ومساكن لطلاب العلم في الشام والعراق وغيرها، كما في المدارس الشهيرة كالصالحية والجوزية وغيرها. وكان للوقف أثره العظيم في التكافل الاجتماعي والأسري: ففي سنن الدارمي أن الزبير جعل دُوره صدقة على بنيه لا تُبَاع ولا تُورث، وأن للمردودة من بناته أن تسكن غير مُضَرَّةٍ ولا مُضّارّ بها، فإن هي استغنت بزوج فلا حق لها. وذكر البخاري في ترجمة باب من صحيحه أن ابن عمر جعل نصيبه من دار عمر سُكنى لذوي الحاجات من أهله وذويه. هذا طرفٌ من الرؤية الشمولية التي كان عليها أسلافنا رحمهم الله في مفهوم الوقف وفي قيامهم بمسؤولياتهم في هذا الجانب، فماذا عن الوقف ومصارفه في حياتنا المعاصرة وما المأمول في ذلك، هذا ما نبينه في مقال لاحق بعون الله.
إنشرها