Author

الفجر الكاذب

|
في تقريره الأخير حول "آفاق الاقتصاد العالمي" وبعد مراجعة خبرائه لنحو 120 أزمة تاريخية وقعت خلال الـ 50 عاما الماضية، توقع صندوق النقد الدولي أن يشهد الاقتصاد العالمي انكماشا أطول وتراجعا غير اعتيادي في الإنتاج، وأن يلي ذلك انتعاش بطيء. بينما صدرت أخيرا تصريحات أمريكية وصينية تشير إلى ظهور ومضات عن تحسن نسبي في اقتصاديهما, إلا أنه من المبكر الحكم على قوة واستدامة هذه الومضات, نظرا لأن هذه الأزمة هي حصيلة كارثة مالية وركود عالمي معا. ويبدو أن هذه الومضات الأولية تدل في أحسن حالاتها على تباطؤ تسارع التراجع الحاد في النشاط الاقتصادي، فمن المبكر الحديث عن بداية تعاف حقيقي. ذلك أن الخسائر الهائلة التي منيت بها المصارف وشركات التأمين وقطاع العقار ثم امتدت لبقية القطاعات الإنتاجية في الولايات المتحدة ما زالت كبيرة وثقيلة، كما فقد الاقتصاد الأمريكي نحو خمسة ملايين وظيفة حتى الآن. الأمر الأكثر خطورة هو سرعة انتقال آثار هذا التدهور الاقتصادي الحاد لمختلف اقتصادات العالم. ووقف هذا التدهور بحاجة إلى ما هو أكثر من مجرد سياسات تحفيزية تستعيد نمو الاقتصاد. سياسات التحفيز قد تخفف من هول الكارثة لكنها لا تساعد على استقرار ونمو اقتصادي مستدام. والواقع أنه لم يحدث طوال التاريخ الاقتصادي أن كان العالم معتمدا على اقتصاد دولة واحدة. فقد أصبح نمو الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل مفرط على سوق الولايات المتحدة. ومع ذلك، وسواء أعجبنا ذلك أم لا، فإن مصدر هذا النمو سيكون شديد الضعف لعدة سنوات مقبلة, ذلك أن مشكلة الاقتصاد الأمريكي هيكلية، وهذا الكساد هو نتيجة لخلل حقيقي في موازين المدفوعات العالمية برمتها. وما يحتاج إليه العالم اليوم هو تصحيح هذا الخلل والانتقال من الاعتماد على دولة واحدة مستهلكة للإنتاج العالمي إلى عدة مستهلكين. وأمريكا في حاجة إلى تقليص مستورداتها وخفض استهلاكها وزيادة ادخارها القومي. وفي المقابل، ينتظر من الدول المعتمدة على التصدير، كالصين واليابان وألمانيا، أن تعيد ترتيب أوضاعها لزيادة مستوى الاستهلاك المحلي وتخفيض الادخار القومي, هذه الإجراءات ضرورية لإصلاح الاختلالات في العلاقات التجارية والمالية الدولية لضمان استدامة الاستقرار والنمو فيهما. ويؤكد "ستيفن روتش" كبير اقتصاديي مورجان ستانلي ورئيس فرعها في آسيا، أن العجز في الحساب الجاري الأمريكي لم يأت من فراغ, بل هو ثمرة تدهور لم يسبق له مثيل في الادخار المحلي، ترتب على وهم ترسخ لدى المستهلكين الأمريكيين أن اقتصادهم يعتمد على أصول لها قيمة عالية، فعاشوا على رفاهية تتعدى قدراتهم من خلال الاعتماد على قيم وأصول قدرت بأكثر من قيمتها بكثير. الدول التي كانت سعيدة بارتفاع صادراتها للولايات المتحدة، عليها الآن أن تغير هذه الاستراتيجية وتعتمد على تنمية طلبها المحلي وتخفيض ادخارها القومي. لكن من المهم ألا تقتصر الإصلاحات العالمية على سياسات تنشيط الطلب الكلي فقط دون علاج جذور للمشكلة. فهذا لن يضمن الاستقرار الدائم بل تعميق للأزمة في ظل خلل موازين المدفوعات الاقتصادية الدولية. الخلل في الادخار والطلب العالمي في حاجة إلى التصحيح, والذين تمادوا في الإنفاق عليهم الآن أن يدخروا أكثر، والذين تعاظم ادخارهم القومي عليهم توسيع إنفاقهم المحلي وعدم الاعتماد على زبون واحد. ما زال عدم اليقين هو المسيطر على المشهد العالمي، ومن المجازفة تحديد موعد لبدء النهوض الاقتصادي.
إنشرها