Author

ماكينة خياطة للبيع

|
قبل يومين لفت انتباهي وجود صورة على الصفحة الأولى في إحدى الصحف اليومية تتضمن مجموعة شباب يحملون ماكينات خياطة وهم فرحون مستبشرون، اعتقدت وقتها أن هؤلاء الشباب من المتدربين في دورة للعمل في مجال الخياطة أو أنهم شباب يعملون في مجال صيانة مكائن الخياطة أو أنهم أصحاب مشاريع صغيرة في مجال الخياطة، ولكنني صدمت عندما قرأت عنوان الخبر وهو "وهم الزئبق الأحمر يدفع آلاف السعوديين لحلم الثراء"، وصدمت أكثر وأنا أتصفح الصحف الأخرى وأجد النساء والرجال من مختلف الأعمار يحملون مكائن الخياطة ويتنقلون بها بين المتاجر والأسواق لعرضها للبيع . حرصت على قراءة كثير مما نشر حول هذا الموضوع، فوجدت خلاصته تتركز في أن شائعة كاذبة انتشرت تفيد أن بعض مكائن الخياطة، خصوصاً القديم منها تحتوي على مادة الزئبق الأحمر، الذي قد يستخدم في عمليات غير قانونية مثل السحر والشعوذة والكشف عن المعادن الثمينة، بل وتكليف الجن بمهام، وهذا الزئبق عبارة عن مسحوق أحمر معدني يستخدم في عمليات الانشطار النووي ويحتوي على مادة مشعة تباع بمبالغ مرتفعة. أما طريقة الكشف على وجود هذه المادة في هذه المكائن القديمة فتتركز في أن يتم وضع الجوال على المنطقة التي توجد فيها إبرة الخياطة فإن اختفت إشارة وجود الشبكة فهذا يعني أن المادة موجودة في هذه الماكينة. وقد انتشرت هذه الشائعة، ما جعل المتحدث الأمني في وزارة الداخلية ينفي مثل هذا الأمر مثل ما نفتها مصادر رسمية أخرى، وفي مقدمتها الشركة المصنعة لبعض هذه المكائن، وقد أثرت هذه الشائعة في أسعار المكائن لدرجة أن قيمتها ارتفعت من 100 ريال إلى عشرات الآلاف من الريالات. وعند سؤال بعض أفراد المجتمع عن هذا الموضوع والمتاجرة فيه، فقد أجمع كل مَن تم سؤاله أن هذا الأمر لا يعرفون له أصلاً ولا حقيقة له، بل كل ما سمعوا عنه لا يتعدى أن أسعار المكائن ارتفعت بسبب زعم البعض وجود هذه المادة الحمراء، حتى إن مثل هذه الظاهرة قد حولت اللصوص من بيوت الأغنياء للتوجه إلى بيوت الفقراء للبحث عن هذه المكائن القديمة، حيث ألقي القبض في حفر الباطن أول من أمس على أحد الأشخاص في سوق شعبية بعد قيامه بسرقة ماكينة خياطة من أجل عرضها على السوق القديمة. سأتوقف هنا ولن أكمل استعراض باقي مسلسل هذه المهزلة، التي في نظري هي مأساة بكل المقاييس، إذ إن عدم الوقوف بشدة ضد الشائعات والأخبار الكاذبة والسيئة سيقضي على كثير من الأركان الأساسية لمجتمعنا، بل سيسهم بشكل كبير في تشجيع ذوي النفوس الضعيفة على التوسع في خلق الأكاذيب ونشرها والترويج لها، خاصة في ظل وجود وسائل تكنولوجية حديثة. إنها حلقة في مسلسل الشائعات التي قضت على آمال وطموحات الكثيرين ممن يركضون خلف حلم الثراء السريع بدءاً بالمساهمات الوهمية ثم شائعات سوق الأسهم ثم بطاقات سوا وغيرها وغيرها من عمليات النصب والخداع والتدليس التي تطرح كل يوم وتنتشر في مجتمعنا لتدغدغ أحلام الكثيرين بأوهام الغنى والثراء السريع، وهذه المشكلة أسبابها متعددة، منها ضعف الإيمان من خلال البيع والشراء من أجل مادة مجهولة يزعم أنها تكشف الكنوز، ومنها ضعف الثقافة الموجودة في المجتمع من خلال تصديقه مثل هذه الشائعات، ومنها ضعف الرقابة الأمنية من خلال السماح بانتشار مثل هذه الشائعات وغيرها من الأسباب الأخرى التي لا يتاح المجال لذكرها. فعلى مَن يبحث عن الزئبق الأحمر أن يدرك أن سر الحصول على هذا الكنز موجود لدى كل فرد فينا من خلال الاستفادة مما يحمله من قدرات ومهارات، وثقة بالله ثم بإمكانياته الشخصية، ولو حرص كل منا على تطوير هذه القدرات وعمل على تسخير إمكانياته لكل ما هو إيجابي فسيعرف أن هذا هو حل السر الذي لا يعتمد على إشاعة وهمية تأخذ الفرد في طريق الأحلام لتوصله إما إلى طريق مسدود أو إلى هاوية يقع فيها ويستيقظ بعدها ليعلم أنه خدع.
إنشرها