Author

الشبكة تطارد الهرم

|
أظهرت دراسة موسعة نشرت الشهر الماضي أن إنتاجية الموظفين في دول الخليج تنخفض بنسبة تصل إلى الثلث مقارنة بدول العالم, وذلك نتيجة الأسلوب الإداري الشائع في المنطقة, الذي يعتمد على السيطرة والخضوع بدلا من التعاون والتحفيز, اللذين أصبحا أهم وسائل تحسين إنتاج الموظفين في العقود الأخيرة. التقرير يتحدث عن إهدار مليارات الدولارات نتيجة تحول الموظفين إلى جيش جرار من الجنود الذين يتم توجيههم بطريقة شبه عسكرية تقوم على مبدأ نفذ ثم اسأل, ما يحول الجو العام إلى جو رعب قائم على تنفيذ الأوامر بدلا من إيجاد الحلول, ويعكس طريقة تراتبية يتخذ فيها القرار من قبل رأس الهرم ثم يكون دور بقية أجزاء المنظومة تنفيذ الأوامر "الملهمة" و"الرشيدة" التي يخرج بها ذهن القائد العظيم أو المدير المهيب. "الهرم" هو النموذج المتبع منذ آلاف السنين لتنظيم العلاقة بين القائد والمقودين, الرأس وبقية الجسد, وظل الهرم يأخذ أشكالا مختلفة, فبعض زواياه حادة وأخرى تشهد ميلا إلى المرونة في الشكل والمضمون, وإن بقيت أسس العلاقة الهرمية علاقة سيطرة من الرأس إلى الأطراف, وبما أن العلاقة الهرمية علاقة قائمة على السيطرة والتحكم فإن المسؤولية والنتائج تعتمد على ما يقرره رأس الهرم سلبا أو إيجابا من الناحية النظرية, أما في الواقع وفي ظل غياب المحاسبة فإن رأس الهرم دائما يستأثر بالغنائم والإنجازات ويلقي بالتبعات والتقصير على من دونه في حالة وجود تقصير أو بروز سلبيات, فالنجاح في المنظومة الهرمية له أب واحد وهو "الزعيم", أما الفشل فليس يتيما لأنه له ألف أب من الأتباع في قاع الهرم ومنتصفه. هذا النموذج صلح ويصلح وسيظل في بيئة تكون فيها أعداد الناس محدودة وفي بيئة جغرافية متقاربة, وفي ظل ثقافة سائدة ترغب في وجود "قائد" و"زعيم" هو محور الحكمة والإلهام, وهذا ما جعل هذا النموذج سائدا ومهيمنا على المجتمعات البشرية بتكويناتها المتعددة ابتداء من الأسرة إلى القبيلة ثم الدولة على سبيل المثال. وظل النموذج الهرمي متقدما في التكوينات الدينية والسياسية والاجتماعية لآلاف السنين, ثم حصل تطوير وإعادة صياغة له في بداية القرن العشرين من خلال نظرية الإدارة العلمية التي تزعمها تايلر استجابة لبروز التعقيد والتشابك في المؤسسات الضخمة, ولا سيما في القطاع الخاص, والصناعي تحديدا, حيث ركزت هذه النظرية على أن يكون الهرم أكثر فاعلية من خلال نموذج هندسي مفتون بالآلة, حيث يتحول العمال والموظفون إلى براغ صغيرة في آلة ضخمة شبيهة بالمكائن الصناعية, حيث يمكن تسيير البشر كآلات يمكن التنبؤ بكل ما يصدر عنهم وما ينتجون تماما كخط إنتاج في مصنع من مصانع "فورد" التي كانت فتنة العصر. لكن بدا أن هذا التحسن لنظرية الهرم البشري سرعان ما خف بريقه في نهاية القرن العشرين حيث وصل التنظيم الهرمي إلى بداية التصدع بفعل فشل النموذج الآلي في تحقيق أهدافه, ما يفتح الباب واسعا أمام نماذج جديدة بدأت تحاول أن تلبس البشر شيئا من إنسانيتهم المفقودة وبفعل رياح التغيير العاتية التي خلقت مآسي هائلة في تطبيقات النموذج الهرمي على أصعدة مختلفة, سياسيا فشل النموذجان الشيوعي والفاشي في تحقيق نجاح عبر أكثر نماذج الهرمية السياسية تقدما وتعقيدا, كما فشلت سياسة التصنيع الموجه والنازع لإنسانية العمال والموظفين لابتكاراتهم ومبادراتهم في تحقيق نجاح إضافي أو مبتكر. النموذج الذي بدأ يلقى أصداء قوية يرتكز على الشبكة وليس الهرم كنموذج لتنظيم العلاقة البشرية, وربما كانت شبكة الإنترنت أكثر النماذج وضوحا لصياغة العلاقات البشرية, وهو نموذج يستحق أن يختصر كيف أن الشبكة بدأت تزيح الهرم من مراكز الأبحاث إلى معامل اتخاذ القرار السياسي, مرورا بالنشاطات البشرية المتنوعة. الشبكة تستحق عرضا مسهبا وهي تطارد الهرم.
إنشرها