Author

كتَبَة امدحني وأمدحك!

|
جميل أن يكتظ صدر المرء بالحب للناس وأن تغمره مشاعر الرضا، وأن يكون شكوراً ممتناً، معبراً عن ذلك بحرارة مباشرة للشخص وجهاً لوجه أو بالهاتف أو بالكتابة إليه. أما أن تتحول الصحف إلى ساحة علاقات عامة وتلميع للذات من أجل تلميع متبادل، هذا يمدح وذاك يرد! على طريقة "امدحني وأمدحك" فإن ذلك سخف ومهزلة و(هيافة) تؤسس، فقط، لثقافة التملق والنفاق وممارسة الضحك على ذقون القراء والاستخفاف بعقولهم، فضلاً عن سرقة أوقاتهم في قراءة (ثرثرة مريضة) لا تعبّر إلا عن النرجسية المزمنة أو الخفة والمراهقة المستحكمة! تكمن مشكلة هؤلاء المداحين في نسيانهم بأن فطنة القارئ لا تخونه في اكتشاف أن هذا يستدرج موضوعه وعينه على تملق فلان، كي يوسع له لاحقاً في الثناء أو العطاء، وذاك يعمد إلى المراوغة وأسلوب الحرباء لكي يمرر محاسن صاحبه لأمرٍ ما في نفسه، وثالث يجمع بين هؤلاء جميعاً وبين الإسراف على نفسه بالمديح وخلع الأهمية عليها، من خلال كثرة مَنْ اتصلوا به أو بعثوا إليه أو استنجدوا به! لكنه ينسى في غمرة الحفاوة بنفسه، كيف أن الكلمات التي ينسبها إلى المعجبين المتيّمين به هي بنات أسلوبه، كما يدحرجه إعجابه بذاته إلى تخيلات هلوسية تغطي حتى على إدراكه، فلا يتردد في الكتابة عن انه صار قائداً أو زعيماً بمجرد أنه أُدلف لردهة مكان مشهور أو سلّم على كبير مقام! إن هناك بالتأكيد أشخاصا رائعين كثيرين خارج مقام الكتابة وعالمها، أفذاذ مميزون في نجاحاتهم وفي خدماتهم الجليلة لوطنهم، وهم كل من أخلص في النهوض بمهام عمله، سواءً في قطاع عام أو خاص، أعيان نعرفُ بعضهم وقد لا نعرف البعض الآخر، جمعوا في مناقبهم المثابرةَ والصمود في ريادة الدور إلى جانب الخلق الكريم، أولئك لا يمثلون ذواتهم، إنما يمثلون الموقف العام في ذواتهم، وإن الإشادة بهم حق على الجميع، فهم نماذج شامخة للاحتذاء. لم تكن جوقة الممادحة والتلميع المتبادل والإشادة بالذات في صحفنا سائدة على النحو الذي هي عليه اليوم. وأظنُ كثيرين، ممن يقرأون هذه الممادحات، بين الكُتّاب أو بينهم وبين مَنْ طعِموا من رزقه أو طمَعوا في مصلحة لهم عنده، تتزاحم الأسئلة في أذهانهم (أي القُراء) على النحو التالي: لماذا كتب هذا يمدح ذاك؟ وما ذنبي في أن أقرأ هذا الهراء؟ وما قيمة ما قاله وكله من بضاعة الطواقي، الصالحة لكل الرؤوس؟ وكيف يجرؤ هذا الكاتب على مدح نفسه أمام الملأ بهذه الصفاقة؟ وبأي حق يفرض على قارئه التصفيق معه لممدوحه؟ وما الأهمية في كونه قام بزيارة هنا أو هناك، أو اتصل به ذاك المسؤول، أو أطلعه على ما يخصه لا ما يخص القراء؟! ما هذا؟! ولماذا استشرى هذا الداء بهذا الشكل؟ صحيح أن النفس البشرية توّاقة إلى المديح، لكن استعراض الذات ومدحها هو خداع ومرض نفسي وغرور ذاتي على حساب القارئ، بل هو تلويث معنوي للكتابة وعودة بها إلى عصور الانحطاط. هل من سبب معقول وراء ظاهرة الممادحة والتلميع المتبادل في الصحف؟ هل لأن الصحافة تشخصنت؟ وانخفض سقف الموضوعية؟ أم أن أقيسة الحياء هي التي انخفضت؟ ثمة ارتباك مخجل فيما يتعلق باختلاط الخاص بالعام، الموضوعي بالذاتي. لعله تسلّل إلى الصحافة من علة المجاملة، أو لعل الحياء لم يعد وفيراً، طالما لا يتردد كاتب في المديح العالي لنفسه بأكثر من صيغة، مثابراً للغرض ذاته على إزجاء المديح لآخرين ليُعلّق في رقابهم دين الجميل، ليردوه إليه ولو بعد حين! وفي الختام مَنْ الملوم؟ هؤلاء المداحون المتلامعون أم الصحف ؟!
إنشرها