Author

تخطيط المدن: الواقع والمأمول

|
في الوقت الذي لا تزال فيه أواسط معظم المدن تعاني مشكلات سوء التخطيط، وعدم وجود الميادين بحكم الملكيات القديمة التي تحول دون إجراء بعض التوسعات لفك اختناقات وسط البلد في غير مدينة ، وفي الوقت الذي قد نجد فيه بعض العذر للأمانات والبلديات فيما يتصل بتلك الأحياء القديمة على اعتبار أنها قامت في وقت مبكر ووفق رؤية آنية ما كان لحسابات المستقبل فيها أيّ دور.. فإن ما لا نستطيع فهمه هو تكرار الخطأ نفسه وفي أحياء جديدة، أو تلك التي لا تزال قيد التخطيط، لا من حيث سعة الشوارع، ولا من حيث توافر الميادين اللازمة، مما سيعيد السيناريو نفسه مستقبلا، لندخل في جدلية نزع الملكيات وما إليها من الحلول الجراحية، التي كان بالإمكان تفاديها فيما لو اعتمدت المخططات الجديدة على حساب حركة النمو في ضوء دراسات ديموغرافية حقيقية واحتياجات المستقبل. هناك طرق دائرية قامت في بعض المدن، ما لبثت وخلال أقل من عقد من الزمن أن تحولت إلى شوارع داخلية بعد أن تجاوزها النطاق العمراني، وهناك مناطق صناعية كان من المفروض أنها أنشئت بعيدا عن المدن لاعتبارات بيئية فإذا بها في غضون سنوات قليلة جزء من أحيائها، بعدما اضطر المخططون لبناء أحياء سكنية خلفها، ولا تزال الأحياء الجديدة تتنامى هنا وهناك، وكأنها جاءت على حين غرّة، مما يوحي بغياب أو قصور ما في الرؤية التخطيطية التي لا تضرب حسابا للمستقبل وحركة نمو المدن المطردة. أجمل مدن العالم وأكثرها تنظيما تمّ تخطيطها على أيدي خبراء عالميين، ما جعلها تفصح عن جمالها من الوهلة الأولى، من خلال العناية الشديدة ببناء الميادين حول المباني العملاقة التي تشكل الواجهات الحضارية للمدن، في حين أن مبنى بالغ الروعة والجمال كمبنى وزارة الداخلية ـ على سبيل المثال ـ ما كاد يشكل بتصميمه الفريد إحدى واجهات العاصمة الحضارية حتى حاصرته الأنفاق من الشرق والغرب حتى لم يعد بمقدور أحد أن يراه إلا بعد أن يترجل ويقف بجواره، فضلا عن وقوعه على أحد منعطفات طريق الملك فهد. لم يعد التخطيط المدني مجرد شهادة في الهندسة يحصل عليها أي دارس في كليات الهندسة وحسب، وإنما هو الآن واحد من العلوم التي باتت تعتمد على أفقين: الأفق الأول: الدراسات المعمقة لمسائل النمو الحضري، وحجم حركته. والأفق الآخر: الرؤية الفنية التي تتيح مساحات كافية لمدى الرؤية البصرية، وتسمح بالنتيجة باستخدامها مستقبلا لأغراض التوسع. بمعنى أن علم هندسة تخطيط المدن أصبح يقوم على حسابات النمو، وعلى توفير المشهد الجمالي الذي تنسجم فيه موجودات المخطط مع الذوق العام، القادر على إبراز هوية المدينة المعمارية. وقد يكون الحديث عن هذه الجماليات سابقا لأوانه ، ونحن نعاني نقص الأراضي المعتمدة للخدمات العامة كالمدارس والمستوصفات والحدائق في بعض المخططات الجديدة كما القديمة، إلا أننا نعتقد بضرورة إثارة قضية تخطيط النطاق العمراني وطرحها للنقاش مجددا، خاصة أن هناك مدنا عالمية بادرت بعقد مزيد من المؤتمرات لهذا الغرض، ودعت إليها كبار المخططين الدوليين للإفادة من خبراتهم، كما أشركت فيها فنانين مبدعين في تحديد الملامح الجمالية ، مؤمنين تماما أننا أحق بذلك ، ونحن من بين أكثر دول العالم نموا وإنفاقا على التنمية المدنية والتخطيط العمراني. إن المؤمل أن يتم التوصل إلى صيغة ما تعيد النظر في مسائل التخطيط برمتها، وتعالج وضع تلك الأراضي البيضاء الكبيرة داخل بعض المدن، التي تتبع لبعض أجهزة الدولة والوزارات بما يفوق احتياجها، لاستثمارها لمصلحة التخطيط طالما أنها تخضع كلها لمصلحة أملاك الدولة.
إنشرها