Author

الخطاب العدائي في الثقافة المحلية!

|
عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية طلب منّي أحد أساتذتي أن أعد خطاباً عن دور الحضارة الإسلامية في نشر العلوم بين الأمم الأخرى لألقيه في اليوم التالي على زملائي خلال الطابور الصباحي, وأتذكر أنني قررت حينها ألا أستعين بأي مصدر للمعلومات سوى ذاكرتي الصغيرة التي تحتفظ ببقايا معلومات أغلبها إن لم يكن جلها مستقاة من المناهج الدراسية آنذاك. وبالفعل وقفت في اليوم التالي وألقيت خطاباً تحدثت في جزء صغير منه عن كون الحضارة الإسلامية حضارة نقلت العلوم إلى شرق العالم وغربه وأخرجت جميع شعوب الأرض من غياهب الجهل وما شابه هذا الكلام.. أما الجزء الأكبر من الخطاب فكان عن ضرورة الحذر من الأعداء المتربصين بثقافتنا ومجتمعنا وعقيدتنا و و و.. كان الخطاب عدائياً بامتياز وجميع السادة الأعداء المتربصين الذين تحدثت عنهم كانوا أشباحاً لايمكن تحديدهم أو حتى إثبات دورهم بشكل موضوعي في عملية التخريب التي ادعيت أنهم يمارسونها تجاه الحضارة الإسلامية, لكن ومع ذلك حظي الخطاب بالنجاح والإشادة من قبل غالبية المدرسين, مما جعل المعلم يشكرني بشكل مبالغ فيه, ويشيد بي أمام زملائي طوال ذلك العام الدراسي. تذكرت هذه القصة بينما كان أحد الأصدقاء المعلمين يطلعني على موضوع تعبير أشد عدائية تجاه الآخر كتبه أحد طلابه في المرحلة الثانوية هذا العام, وتساءلت مع صديقي المعلم عن أسباب وجود ظاهرة النبرة العدائية تجاه العالم بأجمعه في ثقافتنا الاجتماعية, وعن كون أغلب الخطابات الأولى للفرد المتشبع بهذه الثقافة تدور في هذا الفلك وتتحدث عن التربص والأعداء والخطط الجهنمية لضرب ثقافتنا وعقيدتنا وفكرنا وعاداتنا وتقاليدنا... إلخ! ولا أخفيكم أننا اتفقنا على أن هذه الظاهرة لا يمكن أن تنتج إلا عن فكر جمعي يفتقد الثقة بكل شيء ابتداءً بنفسه, ويكن العداء لكل شيء متصوراً أن كل ما في العالم يبادله العداء نفسه, لذلك فهو يحاول بشتى الطرق أن يعيش بعقله في عصورقديمة توهجت فيها الحضارة التي ينتمي إليها بينما يعيش بجسده في عام 2009م, وهذا ما يمكن وصفه بثقافة الانهزام أمام العالم الجديد بكل بساطة, لكن الجيد في الأمر أن زمن تدفق المعلومات الذي نعيشه لا يمهل الفرد كثيراً قبل أن يمنحه مئات الفرص لتجاوز أزمة الخطاب الأول (العدائي), والانخراط في المنظومة الحضارية الانسانية بشكل عام, لتتبقى مجموعة مصرة على التدثر بالخطاب الأول وعاجزة عن رؤية العالم كما هو, ومن هؤلاء معلمون وإعلاميون ومؤلفون نذروا حياتهم لتكريس خطابهم (العدائي) الأول الذي مازالوا يدورون في فلكه, ومنهم معلمي القديم طيب الذكر. في الصحافة أيضاً هناك أشخاص كُثر من طائفة الخطاب الأول, وبعضهم مازال يكرر الخطاب نفسه منذ عقود وهذا يذكرني بقصة أحد كبار التنفيذيين في شركة عالمية عندما استقال من شركته وأرسل سيرته الذاتية لشركة أخرى متضمنة خبراته التي امتدت لأكثر من ربع قرن, فما كان من الشركة الجديدة إلا أن اعتذرت عن قبوله وعندما سأل عن السبب في رفضه رغم خبرته الطويلة كانت الإجابة أنه يملك خبرة سنة واحدة مكررة 24 مرة!
إنشرها