انتهت الحفلة

انتهت الحفلة

دبلن مليئة بمباني المكاتب الجديدة الأنيقة ومنافذ البيع بالتجزئة. إلا أن الكثير منها لا يزال شاغرا، وشاهدا على ازدهار البناء الذي تحول إلى كساد. وفي أحد المواقع، تعمل الرافعات في أحد ملاعب كرة القدم في Landsdowne Road، حيث يتم تجديد الاستاد لتتم إعادة افتتاحه عام 2010. ويقول أحد أهالي دبلن المتفرجين: "على الأقل هناك أحد يحصل على أجر جيد". وقد كانت احتفالات يوم القديس باتريك لهذا العام كئيبة، حتى في واشنطن حيث أعطى برايان كاون، رئيس الوزراء الأيرلندي، الباقة المعتادة من نبات النفل إلى باراك أوباما. وأيرلندا تعاني كسادا أكثر عمقا من أي دولة أخرى في منطقة اليورو. وربما تقلص الاقتصاد بنسبة 2.5 في المائة عام 2008 وقد يتقلص بنسبة أخرى تبلغ 6.5 في المائة هذا العام. وارتفع معدل البطالة من 5 في المائة إلى 10.4 في المائة، وهي زيادة أسرع حتى عن نسبتها في أمريكا. ولعل البنوك الأيرلندية خالية من الأوراق المالية السامة التي سممت ميزانيات البنوك المنافسة، ولكنها ابتليت بالقروض العقارية السيئة. كما أن الأزمة التي تعانيها المالية العامة أجبرت الحكومة على تقديم ميزانية طارئة في السابع من نيسان (أبريل). وبالنسبة للمراقبين الحسودين، فإن سقوط أيرلندا هو ثمن متأخر لارتقائها السريع في السابق. فبين الأعوام 1990 و2007، نما الاقتصاد بمعدل سنوي بلغ 6.5 في المائة. ومن السهل الآن رفض ارتفاع معايير المعيشة خلال سنوات النمو الاقتصادي السريع بوصفه وهميا، خاصة أن أيرلندا تمتعت بازدهار أسعار المنازل والائتمان بصورة كبيرة حتى بالمعايير البريطانية. إلا أن التركيز على انفجار فقاعة الإسكان سيكون بمثابة تضييع المكاسب الدائمة التي تم تحقيقها. لقد مر توسع أيرلندا بمرحلتين. وقد انتهت المرحلة الأولى، التي كانت مدفوعة بالصادرات ومعززة بالاستثمار الأجنبي المباشر، في عام 2002 تقريبا. فقد قدمت الشركات الأجنبية، خاصة الأمريكية، رأس المال والمعرفة. وقدمت أيرلندا في المقابل قوة عمل من الشباب المتعلمين المتحدثين باللغة الإنجليزية بتكلفة منخفضة. وما سهل الأمور هو المنح الحكومية وانخفاض نسبة الضريبة على الشركات والقدرة على الوصول إلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي. ومهّد هذا الطريق لمرحلة من النمو على أسس أضعف. فأسعار الفائدة الأقل، الناتجة عن عضوية اليورو، عززت أسعار العقارات وحفزت ازدهار البناء وتجارة التجزئة. وحصلت فترة الازدهار على دفعة جديدة عام 2004 مع تدفق المهاجرين من الاتحاد الأوروبي. وأعطى النمو المتواصل الانطباع بأن كل شيء على ما يرام، ولكن كما يشير أحد الاقتصاديين الأيرلنديين، فقد اختفت سنوات النمو الاقتصادي السريع. وحين انفجرت الفقاعة، تركت وراءها ميراثا من كومة المنازل غير المباعة والديون السيئة. وكان ازدهار الإسكان يدمر شيئا فشيئا أحد ركائز الجاذبية الأيرلندية: تكاليفها المنخفضة، فقد ارتفع التضخم وتكاليف وحدة العمل (أي الأجور المعدلة لتناسب الإنتاجية) بصورة حادة مقارنة بالشركاء التجاريين الرئيسيين لأيرلندا. وقد وجدت دراسة جديدة أجراها البنك المركزي الأوروبي أن تكاليف وحدة العمل الأيرلندية ارتفعت بنسبة الثلث بين الأعوام 1999 و2007، وهي أكبر قفزة في منطقة اليورو. وتحول الفائض الكبير في الحساب الجاري في منتصف التسعينيات إلى عجز كبير بعد ذلك بعقد، وهي دلالة على أن أيرلندا أصبحت مكلفة جدا. وكان أحد العوامل المساهمة هو الزيادة الكبيرة في أجور القطاع العام بعد استعراض عام 2002. فقد اشتكى عمال الدولة أنه تم إهمالهم من قبل القطاع الخاص. وأدى الاستعراض إلى زيادة كبيرة في الأجور، وهو أيضا من أعراض النهج المتساهل عموما تجاه المالية العامة. وانتقد Charlie McCreevy، وزير المالية بين الأعوام 1997 و2004، الفكرة القائلة: إنه يجب أن تستند السياسة المالية إلى دورة الأعمال، فقد قال ذات مرة: "حين يكون معي المال أنفقه. وحين لا يكون معي لا أنفقه". وأدت تخفيضات ضريبة الدخل إلى جعل المالية العامة تعتمد بصورة كبيرة على الإيرادات من ضريبة القيمة المضافة على المنازل الجديدة وضريبة المكاسب الرأسمالية ورسوم الدمغة. وقد جفت هذه الإيرادات بسرعة عند انخفاض أسعار المنازل والمبيعات، ما دفع الميزانية نحو عجز حاد. وبسبب الاقتصاد الضعيف والخسارة المتواصلة للقدرة التنافسية، انتشر التوتر في أسواق السندات بشأن قدرة أيرلندا على إخراج نفسها من الحفرة المالية. فالعائد على سندات الحكومة الأيرلندية لمدة عشر سنوات، والبالغ 6 في المائة، أكبر من العائد على سندات الحكومة الألمانية، البالغ 3.2 في المائة. وتقترض الدولتان باليورو، لذا فإن الفجوة تعتبر دليلا تقريبيا على الكيفية التي ينظر بها المستثمرون ذوو الجدارة الائتمانية إلى أيرلندا. وأحد المخاوف الكبيرة هو تكلفة ضمان الدولة لديون البنوك، التي تم تقديمها على عجالة في أيلول (سبتمبر) الماضي. فقيمة الأصول المشمولة أكبر بضعفين إلى ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السنوي، وليس بسبعة أضعاف إلى ثمانية أضعاف وفقا لتقديرات البعض، كما يقول Patrick Honohan، من Trinity College في دبلن. ويبدو النظام المصرفي كبيرا على الورق، ولكنه منتفخ بفعل البنوك الأجنبية التي لها مكاتب في دبلن والقروض في الخارج. وتلك ليست مهمة بالنسبة للاقتصاد الأيرلندي، لذا فإن الحكومة ليست مضطرة للوقوف بجانبها. ومع ذلك، من المؤكد أن بعض أصول البنوك المضمونة ستصبح سيئة. وتشير تقديرات Kevin Daly من Goldman Sachs إلى أن مجموع الخسائر قد يكون 20 مليار يورو (27 مليار دولار)، أو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي- معظمها من القروض السيئة إلى شركات العقارات. وحتى وفقا للتقييمات الأكثر تشاؤما، من المفترض أن تكون التكلفة قابلة للسيطرة عليها، حيث إن الدين العام لأيرلندا كان منخفضا. ولكن لا تزال المهمة الملحة هي الحد من عجز الميزانية. وستكون الميزانية المصغرة في نيسان (أبريل) رابع رزمة مالية خلال عام. وفي شباط (فبراير)، وتحديا لمعارضة النقابات، أدخلت الحكومة ضريبة على المعاشات التقاعدية للقطاع العام خفضت الأجر المتبقي بعد احتساب الضريبة بنسبة 7.5 في المائة. وسيشتد الألم في نيسان (أبريل)، حيث يبدو أنه من المؤكد أن معدلات ضريبة الدخل ستزيد وقد يتم تأجيل بعض المشاريع الرأسمالية وتخفيض المزيد من الإنفاق الحالي. ويصر الأيرلنديون على الإبقاء على معدل الضريبة على الشركات البالغ 12.5 في المائة. ومع ذلك، حالما يصل الاقتصاد إلى أدنى مستوى له ويبدأ التأثير الكامل للإجراءات الجديدة بالظهور، من المفترض ألا يكون العجز في عام 2010 مخيفا بالنسبة للأسواق. ويرغب بعض الاقتصاديين في اتفاقية تخفض أجور القطاعين العام والخاص معا. ولأن أيرلندا عضو في اليورو، فهي لا تستطيع تخفيض قيمة عملتها لاستعادة القدرة التنافسية. لذا لا بد أن تنخفض الأجور. ويشكك Karl Whelan من University College في دبلن من احتمالية أو حتى ضرورة إجراء تخفيض منسق في الأجور. فهو يقول: "إن هذا اقتصاد سوق مرن: فالأجور ستنخفض لكون معدل البطالة يبلغ 10 في المائة". وهي تنخفض في الواقع. فقد وجد مسح أجرته غرفة تجارة دبلن أن تسعا من أصل عشر شركات تخفض بالفعل أجورها أو تجمدها، كان ثلث الشركات المستجيبة يخفض رواتب المديرين التنفيذيين بنسبة 10 في المائة أو أكثر. إن استجابة أيرلندا للتقشف تتعارض مع ما تفعله عادة. ففي أمريكا وبريطانيا، تهدف السياسة إلى تجنب الانكماش، الذي يرفع التكلفة الحقيقية للديون. إلا أن أيرلندا تسعى للخلاص من خلال الأجور المنخفضة، مع أن عائلاتها مثقلة بالديون. وفي حين أن كثيرا من الدول تريد رفع اقتصاداتها من خلال التوسع المالي، إلا أن أيرلندا تشدد ميزانيتها. وهناك عدد قليل من الدول التي تواجه مثل حالات العجز الكبيرة هذه. ويأمل الأيرلنديون تحقيق الربح من خلال تحسين الثقة بين المستثمرين الأجانب وفي الوطن. ويدرك المستهلكون الفجوة في الميزانية ويعرفون أنه سيتم فرض زيادات ضريبية، كما يقول Alan Barrette من معهد ESRI للأبحاث. وقد يزيد الإنفاق إذا تلاشى الغموض المتعلق بالضرائب. ولعل هناك مشاعر بالندم على تجاوزات فقاعة الإسكان، ولكن ليس بشأن نموذج النمو المعولم لأيرلندا. ويقول وزير المالية، Brian Lenihan: "إن الحل هو إعادة النموذج مرة أخرى للنمو القائم على التصدير. لذا فإن علينا أن نهتم بالقدرة التنافسية". وعلى الرغم من جميع مشاكلها، فإن لدى أيرلندا نموذجا حين يتعلق الأمر بتقليص النفقات، فقد خفضت الديون بصورة حادة في أواخر الثمانينيات. وإذا كان التعديل داخل اليورو يعني تخفيض الأجور، فهذا ثمن يبدو أن أيرلندا مستعدة لدفعه.
إنشرها

أضف تعليق