Author

الأندلس موسم للبكاء

|
كتبت لي الفاضلة المبدعة أم عبد الرحمن، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أن رضوى عاشور كتبت ثلاثية الأندلس فنالت الإعجاب، أما هي فأصبح لها 30 عاما فلم يتحرك فيها ذلك الشعور العميق للتاريخ، بسببين أنها مقيمة وليست زائرة، فترى الأشياء بمنظار مختلف، ولأنها تتذكر بمرارة سبب استقرارها في الأندلس الضائع في صفحات التاريخ, فقد خلفت وراءها بلدا توقف في مربع التاريخ أيام الفرعون بيبي الثاني, ودخلت العصر الأوروبي فتبقى إسبانيا أوروبية ولو أنها العربة الخلفية في القطار الأوروبي. تقول لقد تذكرت قصة الفلاحة الصينية التي حيل بينها وبين دخول حرم الإمبراطور، وبكين كانت عاصمة محرمة للدخول لأي كان إلا دائرة الإمبراطور، قبل أن تصبح موطئا للسياح؛ فلما لفوها بسجاد وأدخلوها، تحولت كل الهدايا السابقة إلى حياة من شجر ومدر وبشر وعصفور وطير وفاكهة أبا. ونصحتها أنا في المقالتين التين كتبت، أن تكتب مذكراتها فتفيد القراء، لأنها ترى الأشياء من الداخل وبوضوح، قلت لها بعد أن أرسلت لي مقالتين: شكرا للمقالتين وقلمك سيال شلال مبدع، وأنصحك بكتابة مذكراتك عن رحلة العقود الثلاث من وجودك في أرض المورو، بتعبير الإسبان، وأنا شخصيا زرت إسبانيا أكثر من عشر مرات، وبكيت فيها أكثر من عشرين مرة، وفي كل زيارة كانت الغصة تخنقني على ما فرط من قبلنا. وفي محراب قرطبة أذنت مع هجوم الإسبان علي، وكانت على أكتافي بنتي أروى، قلت: لقد انتعشت أرواحهم أخيرا بالأذان، ورأيت آثار أمة، وبقية بلد ونهاية شعب، فلم يخفف إلا الدمع الهتون. وكنت أنظر في وجوه البائعات وأقول لهن أنتن بنات دمشق الأمويات، وفي كل زاوية وقلعة وبقية بلدة توجد بليدة أو (بلد وليد Valdvalid) أي بلدة الوليد، وفي حواف مدريد وادي الحجارة(وادا لاخارا). وحين مررت في طرق توليدو ظننت أنني في حارات دمشق وحلب القديمة وأسواقها المسقوفة، قالوا سيوفها دمشقية، هكذا كانت الصناعة القديمة، وكنت أعشق رؤية نهر التاجة المطوق كالتاج لمدينة طليطلة توليدو الحالية، قالوا كانت المدينة منيعة والتجأ إليها الفونسو السادس في صراعه على العرش مع أخيه إلى ملكها المسلم، وكان أول عمل له أثناء الهجرة السياسية دراسة مناعة المدينة، وكيف يستولي عليها، فكلفته حصار سبع سنين، ولكن مع سقوطها سقط مركز شبه الجزيرة الإيبيرية. وهو ما فهمه المرابطي ابن تاشفين بعد نصره في معركة الزلاقة عام 479هـ أن المعركة شيء، واسترجاع توليدو حسبة مختلفة؛ فسقطت ولم تعد، وتابع الإسبان في أربعة قرون حروب الاسترداد؛ فلم يبق أخيرا إلا ذكريات المورو مع الدموع! درت في شوارع طليلطة بحماس، بسبب قراءتي النهمة للمجلدات السبعة، لكتاب محمد عبد الله عنان عن الأندلس، الذي اشتغل عليها ربع قرن من الزمن بعشر زيارات للآثار، وانتشال آثار رماح ونصول سيوف من أرض معركة العقاب عند مدينة رويال ثويداد. أما في قصر الحمراء فقد سالت دموعي على خدي، وأنا أتأمل نوافير الماء وقعدات الاستراحة الأبدية، وعلى كل جدار مكتوب لا غالب إلا الله. قلت كانوا يشعرون أنهم يغلبون في ذلك الوقت الصعب، فقالوا هكذا جرى علينا قدر الله؛ فإن غلبنا أحد فهو الله القاهر فوق عباده. وقلت أمام الأسود الاثني عشر والماء المتدفق من الأفواه، لقد بنوها للخلود مثل أهرامات الفراعنة، ولكن بجمال ورشاقة ينطقان، وليس جبروت وصمت أبي الهول. ويكاد الإنسان لا يصدق أن أمة وجدت هنا، وأمة اختفت هنا، فسبحان الباقي مالك الملك بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. إنها عبر لمن يعتبر، وأحداث رسمت في مسار التاريخ لتعيها أذن واعية.
إنشرها