Author

"توقيع الحضور والانصراف" أسلوب رقابي لا يليق بموظفي الدولة

|
تمثل الرقابة, الوظيفة الرئيسة الرابعة للمدير, حيث لا يمكن أن تكتمل العملية الإدارية دون رقابة. والرقابة تأخذ عدة أشكال, من أهمها: الموازنات التخطيطية، البيانات الإحصائية، الملاحظة الشخصية، والخرائط الرقابية. وتستخدم هذه الأدوات منفردة أو مجتمعة حسب نوعية المنظمة، نوعية المنتج، الوقت، والتكلفة. وهنا سأستعرض آليات ممارسة وظيفة الرقابة في بيئتنا التنظيمية وفقا للنظريات العلمية والنماذج التطبيقية. فقد تبين أن غالبية مؤسسات الدولة لا تتقن من أدوات الرقابة إلا الرقابة التقليدية أو ما تسمى في أدبيات إدارة الأعمال الملاحظة الشخصية "التفتيش". و هو أسلوب رقابي مقبول في المنشآت الصناعية والأمنية، إلا أنه لا يليق البتة برقابة موظفي الخدمة المدنية ومن في حكمهم. لقد بالغت بعض منظماتنا في مراقبة موظفيها ولم تتوان في استخدام التقنية لمراقبة سلوكياتهم ومجرى دمائهم. فبالإضافة إلى الملاحظة الشخصية أخذت رقابة موظفي الدولة عدة أشكال منها "البصمة" و"التنصت". ورغم أنه لم يوثق بعد أسلوب "التنصت" في مؤسساتنا إلا أن البيئة الإدارية والتنظيمية مواتية له ومستعدة لتقبله. و"التنصت" ببساطه أسلوب رقابي أمني استخدم كأداة رقابية رسمية في بعض منشآت الأعمال كشركة فورد في بداية القرن الماضي، وتم الاستغناء عنه نتيجة لتكاليفه العالية ومحاربته من قبل بعض لجان حقوق الإنسان. انبثق أسلوب "التنصت" من مبدأ سلوكي يسمى "التعويض"، وهو استبدال السلوك المعيب بممارسة سلوك آخر لإخفاء الأول، يلجأ إليه بعض الموظفين أو المستخدمين لتعويض قصور في انضباطهم أو خلل في أعمالهم فيتطوعون بتقديم خدمات - مرفوضة اجتماعيا - كالتنصت على أقرانهم، أو نقل معلومات عن بيئة العمل لجبر ما يلحق بأعمالهم من خلل. ويطلق أحيانا على أسلوب التنصت "رقابة الظل" بسبب رغبة المدير في معرفة ما يخفى عليه من أحوال المنظمة نتيجة غيابه أو عجزه عن الإلمام بكل ما فيها. ورغم منعه رسميا وعدم قبوله اجتماعيا ودينيا إلا أنه يمارس بشكل فاضح بسبب صعوبة إثباته قانونيا. بعض مؤسساتنا طوعت التقنية لرقابة موظفيها واعتمادها كأداة رقابية رسمية. والتقنية وسيلة رقابية حديثة تمارس في الجهات الأمنية والأعمال الحرفية والإصلاحيات، إلا أنها لا تليق بموظفي الخدمة المدنية. فعلى سبيل المثال، تغنت بعض منظماتنا بتبني نظام "البصمة" " تمهيدا لهجر الطريقة التقليدية لإثبات حضور وانصراف الموظفين ظنا منها أنه أسلوب رقابي أنموذجي إلا أنه سبب لها فوضى إدارية وزيادة في الأعباء المالية ناهيك عن أنه ولد أحقاداً وسلوكيات تنظيمية بغيضة لا يعرفها إلا من واجهها. كان بإمكان مؤسساتنا الحكومية وغير الحكومية أن تتخلى تدريجياً عن النظام التقليدي في إثبات حضور وانصراف الموظفين بتبني مبدأ "الرقابة الذاتية" الذي حث عليه الإسلام، وأكدت نجاحه الدراسات الإدارية والسلوكية الحديثة عن طريق تكييف بيئة العمل علي احترام شخصية الموظف، وتوقع الحسن والعمل الجيد منه والمواظبة والالتزام. وهذا الأسلوب ليس دخيلا علينا أو حكرا على الدول المتقدمة فهو يمارس بالفعل في بعض منظماتنا الناجحة منذ عقود. للاستفادة من مبدأ "الرقابة الذاتية" يجب أن ينظر إليه كحافز وليس حقا مكتسبا وهو بالفعل كذلك. فعندما تم تطبيق هرم "ماسلو" للحاجات على نظام الحوافز اعتبرت الرقابة الذاتية من حاجات تحقيق الذات التي تقع في قمة الهرم كتفويض السلطة والمشاركة في اتخاذ القرار، لذا يجب الاستفادة من هذه الخاصية البشرية في التخلص من الطرق العتيقة للرقابة كإثبات الحضور والانصراف كتابيا. عندما أرادت إحدى المؤسسات تفعيل الرقابة الذاتية أصدرت قرارا بإعفاء جميع الموظفين من التوقيع في دفتر الحضور والانصراف وقد أحدث هذا خللا كبيرا وفوضى عارمة لأن الموظفين لم يعتادوا على هذا الأسلوب الرقابي الجديد، فعادة التوقيع ما زالت سلوكا راسخا في الثقافة التنظيمية ويحتاج إلى وقت لانتزاعه. إذا أرادت المنظمات التخلص من هذه العادات الإدارية البالية فلتتدرج في التطبيق ولتنظر إلى هذا التحويل على أنه مكافأة وليس حقا مكتسبا للموظف ولتبدأ بإعفاء الموظفين المنضبطين من التوقيع. وقد يستغرق التحول من الطريقة التقليدية إلى الرقابة الذاتية عدة سنوات لأنه يحتاج إلى انتزاع العرف الأول (إثبات الحضور كتابيا) وترسيخ عرف جديد (الرقابة الذاتية). ويجب أن يبقى خط الرجعة مفتوحا فيمكن العودة إلى الطرقة التقليدية كحافز عقابي لفترة محدودة لتهذيب سلوكيات شواذ الموظفين، أما إصدار قرار بإعفاء جميع الموظفين من التوقيع في وقت واحد فلن يكتب له النجاح وسيؤدي إلى فوضى ولن تستطيع المنظمة ضبط حضور وانصراف الموظفين حتى لو عادت لفرض التوقيع مرة أخرى. نعود ونقول: إن رقابة الموظفين عن طريق "دفتر الحضور والانصراف" أو "البصمة"، ورقابة سلوكياتهم عن طريق "التنصت" أساليب غير مقبولة إداريا واجتماعيا، ومن مقامي هذا أطالب مؤسساتنا الشامخة بالتوقف التدريجي عن استخدامها وأنا على ثقة أن جميع الموظفين في جميع قطاعات الدولة سيقدرون هذا وسيبذلون كل ما في وسعهم لإنجاح المهمة لأنهم قبل أن يكونوا موظفين فهم مواطنون مخلصون، كما أنني متأكد أن غالبية القياديين يمتلكون المهارات القيادية اللازمة للتخلص من هذه العادات الرقابية التي تعوق انطلاق وإبداع الموارد البشرية الوطنية.
إنشرها