Author

الأساطير الشعبية في سندات الدولار الأمريكية

|
العالم أجمع بلا استثناء يشعر بمرارة هيمنة الدولار واحتكاريته الطبيعية لعملة الاحتياط ويتألم من تسلط النظام الاقتصادي الأمريكي الذي يتهافت عليه المستثمرون من جميع أنحاء العالم, ويدرك استغلاله ثروات الشعوب التي تتنافس في تقديمها له وتسخيرها من أجل رفاهية المواطن الأمريكي، ولكن استجابة الشعوب لهذا الاستعمار المالي السلمي تختلف اختلافا بينا شاسعا كاختلاف الليل والنهار وما بينهما. فمنهم، أي من هذه الشعوب، من عض على نواجذه وتجاهل هذه الحقيقة وتعايش معها متجنبا الدخول في حرب مالية مع الاقتصاد الأمريكي فقبل بدفع الإتاوات لهم بشراء فوائض الدولار من غير حاجة إليها, والتي تكون في صورة سندات حكومية، وضحى بتقديم السلع الرخيصة للشعب الأمريكي بينما انصرف وانشغل ببناء اقتصاداته وتأسيس البنى التحتية الإنسانية والصناعية كاليابان والصين. ومن الشعوب كبريطانيا من هو أكثر خبثا وطمعا فرضي بالعيش والاقتيات على صدقات الدولار، فسخرت أسواقها المالية لخدمة الدولار خارج الحدود الأمريكية أو ما يسمى اليورودولار. ومن الشعوب من قرر المواجهة بالفعل لا بالصياح والنياح, حيث تكتلت هذه الشعوب فيما بينها فأنشأت عملتها الموحدة المسماة اليورو وصبرت على حرب مالية ضروس باردة كبرودة التماسيح شنها عليهم الدولار من أول يوم انطلق فيه اليورو عام 1999 وحقق الدولار نصره في أولى جولاته فهزم اليورو في بداياته بتخفيض قيمته بينما احتفظ الاقتصاد الأمريكي بنموه وازدهاره الذهبي في تلك الفترة، ثم عاد الدولار وهزم خصيمه اليورو لاحقا في خنق اقتصادات بلاده برفع قيمته حتى أعلنت أوروبا الهدنة إلى حين، وأفشت أسرارها وكشفت عن آلام اقتصاداتها التابعة للدولار متوارية بظلال الأزمة المالية الحالية، وأسلمت أمرها بتتبع ما يمليه عليها الأمريكيون. ومن الشعوب كبعض من العرب والروس بما فيهم أوروبا الشرقية والشيوعيون على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وجنسياتهم من أتى بالمضحكات المبكيات فأشغلوا أنفسهم بنسج الخيالات لتسلية النفوس والترويح عنها فحبكوا أساطير النصر الوهمية ومجدوا وأنصتوا لكل من تلاعب بعواطفهم فمناهم بسقوط الدولار غدا أو بعد غد، فقعدوا كسالى يعللون النفس بإفلاس أمريكا العاجل وكأن إرثهم للدنيا حاصل لهم دون العالمين وموعده يوم إفلاس أمريكا القريب. كُثر هم من عرب وروس وأشباههم وأمثالهم من الغربيين والشيوعيين من يخرج علينا في هذه الأيام من حين إلى آخر من يفخر بكونه قد تنبأ بسقوط الدولار. سقوط الدولار حقيقة يقررها القرآن وتثبتها سنن الله الكونية، "وتلك الأيام نداولها بين الناس" ولا تحتاج إلى مفكر أو مُنظر ليفلسف هذه الحقيقة. أفول شمس الدولار واختلاسه بظلم ثروات الناس وأموالهم تحدث عنه مفكرو وعلماء الاقتصاد الأمريكي قبل غيرهم ابتداء بجرين سبان رئيس البنك الاحتياطي الأمريكي السابق في هجومه قبل 40 عاما في 1967 على سياسات قومه المالية والتحذير من الخطط والحيل الماكرة، بحد تعبيره، التي يرمي إليها الدولار الحديث. وإلى يومنا الحالي لا يكاد يخلو يوم في العقد الماضي من غير أن تناقش إذاعة أو جريدة أو ندوة في الولايات المتحدة مسألة هيمنة الدولار وسقوطه المقبل بلا محالة. ولكن متى وكيف يمكن تأجيله هو محور حوار عقلائهم ومفكريهم حول هذه المسألة من أجل حماية الأجيال المقبلة لا كونه حاصلا غدا أو بعد غد كما تروج لذلك أساطيرنا الشعبية. في هذه الأزمة المالية التي هي صنيعة الدولار المغطى بالوهم، أثبت الدولار قوة تسلطه وشدة هيمنته, فعلى الرغم من أن اقتصاد الدولار هو من اختلس عشرات التريليونات من استثمارات العالم أجمعه بلا استثناء، وعلى الرغم من أن الفائدة على السندات الأمريكية هي الأقل على الإطلاق، وعلى الرغم من خطط الإنقاذ المالية الحكومية التي هي ببساطة عبارة عن طبع مزيد من ورق الدولار، وعلى الرغم من قروض البنك المركزي الأمريكي للبنوك التي قاربت التريليونين هو زيادة ضخ مزيد من هذه الأوراق من غير غطاء حقيقي لها مما يستلزم نظريا ومنطقيا انخفاض قيمة الدولار، على الرغم من ذلك كله فما زال الإقبال على السندات يتزايد على قدر زيادة وتيرة فقدان الثقة بالاقتصاد العالمي حتى أصبحت العوائد الاستثمارية على السندات الحكومية الأمريكية تقارب الصفر أو هي أقل من الصفر في الحقيقة بحساب التضخم. وهذه نتيجة طبيعية، ففقدان الثقة بسوق الأسهم والسندات يدفع بأموال الناس للبحث عن ملاذ آمن ولو كان العائد صفرا كوضع الذهب سابقا، فهو أي الذهب لا يدفع فوائد ولكنه قديما كان يضمن قيمة رأس المال. ولكن والذهب أصبح سلعة من السلع ترتفع قيمته وتنخفض تبعا لعرض الدولار في السوق المالية وتبعا للمضاربات, إضافة إلى أنه يتطلب تكلفة لحفظه، كل ذلك مهد الطريق لتكون سندات الخزانة الأمريكية الملجأ الآمن التي تهرب إليه الأموال عند وقوع أي أزمة ثقة بسوق السندات والأسهم. وعودة إلى الأساطير الشعبية في سندات الحكومة الأمريكية، فقد انتشرت بين فئة معينة من الناس هذه الأيام أساطير تدور حول عجز الحكومة الأمريكية عن سداد فوائد السندات أو عن دفع قيمتها أو عجزها عن إعادة التمويل (أي سداد السند ومن ثم إصدار سند آخر). هذه الأساطير تنتشر عادة في المنتديات وفي صحف الإثارة وفي تحريف المترجمين الإعلامي للمقالات الأجنبية وعند تجار الذهب العالميين. والعجيب هو طيران القوم بهذه الأساطير واستبشارهم بها، وهم في تلقفهم لهذه الأساطير وكأنهم قد ورثوا الأرض من بعد أهلها وأقاموا الحجة على صحة أطروحاتهم وأثبتوا صدق نبوءاتهم وبرهنوا على فشل السياسات النقدية والمالية للدولة التي اعترف المنصفون من العقلاء بنجاح هذه السياسات وحكمتها. وما كان لهذه الأساطير أن تنتشر وتسري بين هذه الفئة من الناس لو أنهم استمعوا وسألوا وأنصتوا لمن يخبرهم بواقع الأمر وحقيقته لا بمن يخبرهم بما يريدون ويرغبون في سماعه. بصرف النظر عن الإقبال الشديد على السندات الأمريكية في الوقت الراهن من الأمريكيين أنفسهم قبل غيرهم، فإن مفهوم إفلاس الدولة التي تصدر سندات بعملتها المحلية كنتيجة لعدم استطاعتها الوفاء بمستحقات السندات هو خطأ في أصله ولا يمكن حدوثه والذي يمكن حدوثه هو عجز الدولة أن تبيع سندات جديدة ولو بفوائد مرتفعة, وهذا لا يحدث إلا في حالات نادرة تكون مصاحبة لانهيار كامل لاقتصادات الدولة أو بقيود معينة عليها كما في منطقة اليورو. (ويأتي تفصيل ذلك وما يمكن حدوثه في المقال المقبل ـ إن شاء الله تعالى)، ولو افترضنا ما يمكن حدوثه كانخفاض كبير لقيمة الدولار مثلا أو تجاوزنا استحالة إفلاس الحكومة الأمريكية لعدم استطاعتها سداد مستحقات سنداتها وافترضنا حدوثه من أجل تقريب الطرح فما النتيجة العملية لذلك التي تبرر استبشارنا وأمنياتنا لحصول ذلك؟ فمن الناحية الشرعية فهو دليل قاطع على بطلان وفساد علة قياس الدولار على الذهب الذي هو في الحقيقة قياس العدم والوهم على الوجود والحقيقة كقياس الخدم على الرقيق والإماء، إذن فإفلاس أمريكا صاحبة عملة الاحتياط دليل على بطلان أطروحات هذه الفئة من الناس التي تروج لذلك في محيطنا الإسلامي. وأما من الناحية الاقتصادية فإفلاس أمريكا هو شطب كامل لديون الحكومة الأمريكية وفقدان ثرواتنا واحتياطاتنا التي مكنتنا بفضل من الله ومنة أن نغرد بفرح وقوة واستقلالية خارج السرب الحزين الجريح في هذه الأزمة المالية, فهل انضمامنا إلى السرب المريض هو ما تأمله وتتمناه هذه الفئة من بلادنا التي تردد بلا وعي أطروحات الغرباء؟ وأما من الناحية العملية فهل انهيار الدولار أو إفلاس أمريكا هو طريق سيادتنا المالية دون العالمين أم هو مجرد استبدال سيد بسيد آخر؟ إلى متى ونحن نمني أنفسنا بالأوهام ونبني عليها أحكاما وأفعالا عواقبها وبالا ومآلها خيبة وحسرة. إلى متى ونحن لا نستمع ولا نستشير إلا لمن يُسمعنا ما نريد سماعه فنظل ندور في حلقة مفرغة نضيع الجهد والمال لنصل إلى حيث بدأنا منهكين مالين محبطين. متى نرقى بفكرنا إلى اعتماد الحقائق فنتمكن من وضع أيدينا على مواطن الخلل والعلل فنستعين بذلك على تأسيس تصورات صحيحة نبني عليها أحكاما وأفعالا تحمدنا عليها أمتنا وتزدهر بها شعوبنا ويستعين بها أبناؤنا لينتصر بها أحفادنا؟
إنشرها